التصنيفات
كتب وقراءات

كيف أتقن نزار قباني لعبته الشعرية ؟

من الكتب التي اشتريتها من معرض الرياض للكتاب عام 1429هـ كتاب للشاعر الشهير نزار قباني بعنوان : “لعبت بإتقان وهاهي مفاتيحي” الطبعة الثانية في شهر إبريل من عام 2000م، والكتاب عبارة عن حوارات صحفية أجريت مع الشاعر ما بين عامي 1984-1989م، وبما أن الحوارات واللقاءات الصفحية التي أجريت مع الشاعر كثيرة فقد انتقى الشاعر أفضلها وأقربها إلى نفسه وأكثر تعبيراً عنه.

وهي فكرة حسنة بلا شك تسهل لمحبي الشعر وللنقاد والدارسين مهمة التعرف أكثر على الشاعر، وكما ألهم نزار الكثير من الشعراء بعده الذين أحبوه وتأثروا بشعره فربما ألهم الشاعر غازي القصيبي حينما جاء بفكره ليست بعيدة عن فكرة نزار وهي فكرة كتابة سيرته الشعرية. كم كنت أتمنى أن ألتقي بنزار لأن في نفسي الكثير من الأسئلة عن شخصيته، وعن شعره، ولكن الموت حينما أخذ الشاعر أخذ أمنيتي معه، ومن حسن حظي أن أجد بين الإعلاميين من فكر في هذه الأسئلة قبلي فطرحها على الشاعر مع مجموعة أخرى لم تخطر على بالي، وكم كنت سعيدا، و أنا أقرأ لنزار مجيبا عليها.

يتكون الكتاب من عشر مقابلات في فترات زمنية مختلفة، ويبدو أننا أمام وجبة دسمة؛ لذلك سأفرد لكل مقابلة تدوينة خاصة، وستكون هذه التدوينة خاصة بالمقابلة الأولى التي يحمل الكتاب اسمها ( لعبت بإتقان و هاهي مفاتيحي .. ) حوار مع مجلة الكرمل – نيقوسيا – العدد 28/1988 ، وقبل أن أعرض المختصر المفيد للمقابلة أشير إلى أن الأسئلة قد شارك في إعدادها أكثر من شخص لذلك كانت متباينة، جريئة وقوية أحياناً، وصعبة أحياناً أخرى، ولكن إجابات الشاعر كانت أيضاً مفاجئة أحياناً، وشجاعة ومنطقية أحياناً أخرى، ونثر نزار لا يقل روعةً عن شعره وفيه الكثير من لغته الشعرية.

كان السؤال الأول تساؤلاً عن مدى التغيير الذي يدعي الشعراء أنهم أحدثوه في العالم بينما كان السياسيون و الحروب تغير العالم في الواقع !! فأجاب الشاعر أن الجميع يحلمون بالتغيير و يسعون إليه و لكن الوسائل و المواقف و السلوكيات تختلف ، ثم إن هناك تغيير سريع و تغيير بطيء ، و الشعراء من أهل التغيير البطيء لأنهم صبورون لا يريدون أن يدخلون في سباق مع المسدس و المشنقة و الكرسي الكهربائي ، عن تجربته الشخصية بالذات أجاب أنه حفر الوجدان العربي خلال أربعين عاماً على طريقة حنفية الماء ، نقطة .. نقطة .. نقطة ! ، و عن التغيير الذي أحدثه قال أنه منح الحب الشرعية و العلنية ، و أجبر اللغة الشعرية على النزول إلى المقاهي و المطاعم الشعبية و الشوارع الخلفية ، باختصار كان أول من أعلن تأميم الشعر!.

أما السؤال الثاني فكان عن شعر نزار السياسي، وهو سؤال جيد، كيف استطاع نزار أن يكتب شعره السياسي الناقم الثائر دون أن يدخل في مواجهة شخصية مع النظام؟! هل أراد أن يكون شعره عموماً حتى لا يدخل في انتقامٍ شخصي؟! وقد كان جواب نزار التأكيد على أنه في مواجهة مع جميع الأنظمة بديل منع كتبه ثم قال ( وأنا لا أوافقك على التسمية في الشعر؛ فالتسمية تسيء إلى الشعر، وتحوله إلى خناقة في شارع، أو ثأر شخصي، وأنا كشاعر لا أثأر من أشخاص، وإنما من أفعال وممارسات وانحرافات قومية، الشعر هو فن الإشارة والإيماء، ولا علاقة له بفن الكاراتيه والمصارعات اليابانية، والإعلانات المبوبة،… إن المواجهة الجسدية مع نظام من الأنظمة ليست بذات أهمية؛ فالشاعر ليس مجموعة من العضلات، بل طاقة روحية هائلة، وسلطة تتقدم على كل السلطات).

أما السؤال الثالث فكان من الأسئلة التي فكرت فيها كثيراً ، كيف استطاع نزار التحدث بلسان المرأة و التعبير عن أحاسيسها بهذه الكمية و الدقة التي تجعل القارئ يشعر فيها أنه يقرأ لشاعرة و ليس شاعر ! ، و قد كانت إجابة نزار تخلصاً ذكياً من هذا السؤال الملح فقال أن الجنين في بطن أمه قبل يتحدد جنسه يعيش فترة حائراً بين الجنسين فإذا ما تحدد جنسه بقيت في ذاكرته سواء كان ذكراً أو أنثى ، و قد كانت ذاكرة نزار الأنثوية نشطة و قد كان وفياً لمرحلة ما قبل تحديد الجنس ! ، ما رأيكم في الجواب ؟ هل كان مقنعاً لكم ؟ شخصياً اعتقد أن الشاعر يقصد الهرمونات الذكرية و الأنثوية التي تبقى مع الإنسان حتى بعد أن يتحدد جنسه ، و لكن نزار عبر عن ذلك بطريقته الشاعرية الخاصة !

السؤال الرابع أيضاً كان من الأسئلة التي خطرت في بالي من قبل وهي مسألة التناقض في شعر نزار شكلاً ومضموناً، في الشكل هناك بعض القصائد التي تقرأها فتحسب نزار من المحافظين، وهناك بعض القصائد التي تقرأها فتحسب نزار من المجددين! وفي المضمون هناك تفاوت كبير في نظرة نزار إلى المرأة ، ما رأي نزار في هذا التناقض ؟ يقر نزار بهذا التناقض، ويعده طبيعياً لأن الإنسان لا يستقر على حال ، أما عن المرأة فقال ( عرفت خلال أربعين عاماً جميع أنماط النساء ، فعلى أوراقي تجد العشيقة ، و تجد الصديقة، وتجد الطاهرة، وتجد العاهرة، وتجد الباردة، وتجد الشهوانية، وتجد السلطانة، وتجد الجارية، وتجد العذراء، وتجد المحترفة، وتجد من تقول لك شفتها العلياء “لا” في حين تقول لك شفتها السفلى “ادخلوها بسلامٍ آمنين” إذن فالمرأة طقس، ومناخ، ومطر استوائي، لذلك كان شعر يتابع تحولات الحب، وتحولات النساء، كما يفعل موظفو مصلحة الأرصاد الجوية )

السؤال الخامس عن عودة نزار دوياً للقصيدة العمودية، هل كان للمضمون دوراً في ذلك؟ وكانت إجابة نزار مضطربة متناقصة فقد قال في أول الجواب أن لا أحد يفرض عليه شكلاً من الأشكال أنه حر فيما يختار، ثم عاد وقال أن بعض المضامين تحتاج إلى شكل معين واعتذر لنفسه بأنه حين يفعل ذلك فلا يخون الحداثة!.

السؤال السادس كان عن الكلاسيكية و الحداثة في دلالة الألفاظ ، لكنه كان ملبساً و صيغ بطريقة سيئة جعل الشاعر يقول ( لا أفهم إلى أين تريدون الوصول بسؤالكم التعجيزي ؟ هل تريدون القول إنني لم آت بجديد في خطابي الشعري … إذا كنتم تقصدون – و أرجو أن أكون مخطئاً في فهمي – أن كل ما صنعته في الشعر خلال أربعين عاماً كان صناعة بدوية صرفة ، فإن الكارثة من هذا المفهوم العشوائي للنقد هي كارثة عظمى ) و قال ( إذا كانت الحداثة لديكم تعني “تكنيس” رأس الإنسان من كل معرفة سابقة ، و كل لغة سابقة ، و كل تجربة سابقة ، فبأي لغة تقترحون علينا أن نكتب . و ما هي المفردات التي تقترحون علينا أن تستعملها ، حتى نتفاهم مع الوجدان العام ، و نستحق أسمائنا كشعراء ) و هنا كان نزار شجاعاً في مواجهة الدعوة إلى إلغاء القديم بالكلية !

السؤال السابع كان عن لغة نزار قباني و اختياره للألفاظ التي كان بعضها فصيحاً أو عامياً أو أجنبياً ! هل يستخدم نزار ما كان حاضراً في ذهنه حال كتابة القصيدة مهما كان ؟! و كان رد نزار المتوقع أنه على العكس ، يختار ألفاظه بعناية ، و أنه صنع لغته الشعرية الخاصة به ، و لو كان غير ذلك لكان هناك ألف نزار قباني !.

السؤال الثامن له علاقة بالسؤال السابق و قد تكرر ، كان حول ميل نزار إلى دمج المفردة العادية العابرة و التفاصيل العادية البسيطة في الشعر مع القول الشعري الجميل ! ، قال نزار رداً على ذلك ( يؤسفني أن أقول لكم أن لنا رؤيتين للشعر متباعدتين جداً ، بل متناقضتين جداً ، ففي حين تعتبرون كل ما هو حميمي ، و يومي ، و معاش ، ضد الشعر ، أعتبره أنا أساس الشعر و جوهره ) ثم قال إن الشعر يمكن أن يكون جميلاً و مفيداً ، و قال في إجابة سؤال أخر ( إنني لم أعد متحمساً للجميل لأنه جميل ، و لكنني صرت من حزب الجمال الذي ينفع ، في بداياتي كنت مقتنعاً بأن ثمة لغة خاصة بالشعر و لغة أخرى خاصة بالنثر ، و أن الكلام الشعري شيء ، و حوار المقاهي شيء آخر ، في أواخر الستينات تخليت عن كل هذه الأفكار ، و قررت أن أكسر الحدود بين لغة القاموس و لغة الناس ، و ان الشاعر الحقيقي يستطيع أن يحول حتى الإعلانات المبوبة إلى شعر ) !.

السؤال التاسع رأي نزار نظرة القارئ إليه و أنه تعود منه على مستوى فني معين بينما كان نزار نفسه متغيراً ، الجزء الثاني عن رأي نزار في كونه شاعر مصنف ، كان جوابه عن الجزء الأول أنه متغير و لن ليس تغيراً كاملاً شاملاً و إنما تغير مطلوب و هو ( حالة من اليقظة و الطموح و التحفز تمنع الكاتب من الدخول في مرحلة الغيبوبة ، و تدفعه إلى أن يكون جزءاً من إيقاع العصر و حركة التاريخ ) أما عن كونه مصنفاً فقال ( ليس في العالم شاعر غير مصنف ، فالتصنيف معناه أن يكون لنا وجه و ملامح و بصمات و جواز سفر نعبر به إلى العالم ، أما الشاعر الذي لا يدخل تحت أي نوع من أنواع التصنيف فلا وجود له على خريطة الشعر أصلاً ).

السؤال العاشر كان عن كون نزار شاعر حواس ، لم ينفِ ذلك نزار بل دافع عنه حتى قال إن الدين الإسلامي كان دين تجسيد لا تجريد ، و السؤال الحادي عشر كان عن كون نزار شاعر ذاكرة يكثر من التفاصيل و عن كونه واضحاً في ذلك ، و قد قال رداً على ذلك ( أما اعتراضكم على الذاكرة و التفاصيل و على الشؤون الصغيرة فاعتراض عجيب لأن التاريخ كله تفاصيل و الروايات و المسرحيات و السمفونيات و الفنون التشكيلية و السير الذاتية و العلاقات الغرامية ، كلها تفاصيل ، و الشعر العربي لاسيما الجاهلي منه كان أعظم شعر تفصيلي في العالم ، لأنه كان يخلق من بعرة الجمل فردوساً ، و من ملقط شعر تركته الحبيبة ثروة قومية ) .

هذه أهم الأسئلة نقلتها لكم بمعناها، وهناك أسئلة أقل أهمية أهملتها، نقلت لكم الإجابات باختصار، وحاولت أن اقتبس من كلام الشاعر الفقرات الواضحة حتى يكون النقل أكثر أمانة ومصداقية ، وأتمنى أن أكون وفقت في ذلك.

بواسطة صالح الهزاع

مدون سعودي

تعليقين على “كيف أتقن نزار قباني لعبته الشعرية ؟”

نزار قباني أسطورة ، تعرف أخي ، صحيح أنه في معظم شعره يناقض بعض القيم اللي تربينا عليها و التي وردت في ديننا الاسلامي ، لكن لو جلست معه لحظة أو حتى قرأت له كتاب كهذا تقتنع أن الغلط اللي يعمله صح .. كيف ؟! لا أدري ..!!
أنا مش ضده لكن ضده في قصائد معينة فقط
طرح مفيد ، و راقي .. أشكرك

انا على قناعه
بأن هذا الشاعر لن يتكرر مرة اخرى

فمن حسن حظنا انه خلف قصائده وتركننا نبحر فيها ليس كبقة البحار
انه بحر
عذب للغاااايه
اشكرك اخي على طرحك الرائع

تقبل تحيتي

أكتب تعليقك

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: