التصنيفات
خواطر ومقالات

ليلة في قلعة الشعراء

أغمضت عيني ثم فتحتها، وبدأت في قراءة السطر من جديد، أقرأ كلمتين ثم تكبر الحروف شيئاً فشيئاً حتى تختلط، وتختفي، أنظر في الساعة : آه .. لقد تأخر الوقت، طويت الكتاب، ووضعته على المنضدة، وسحبت اللحاف، وغصت في نوم عميق .. ما هذه القلعة العظيمة التي يشعُّ منها النور في هذا الليل المطبق بظلامه؟، ثم ما هذه الأصوات العالية؟، يبدو أن في هذه القلعة معركة حامية.

حثثت الخطى حتى دخلت القلعة ، فقابلني بهو مزدحمٌ بالناس ، فبحثت عن شخص يخبرني الخبر ، فلمحت الشاعر أحمد شوقي يصرخ في الناس و قد حمل سيفه قائلاً : بايعوني .. بايعوني .. ، ثم أنشد :

وعلمنا بناء المجد حتى – أخذنا إمرة الأرض اغتصاباً
وما نيل المطالب بالتمني – ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً
فاجتمع حوله الناس ..

ولكن رجلاً صعد نافورة البهو ، و أخذ يغرف الماء بيديه ، و يلقيه على وجهه ، و صدره ، و يقول :

وا حرَّ قلباه ممن قلبه شبمُ – و من بجسمي و حالي عنده سقمُ

من ؟! ، أبو الطيب المتنبي ! ، فانطلقت إليه و قد اجتمع الناس حوله ، فصعب عليّ الوصول إليه ، فسمعت صرخة من ورائي ، فالتفت فإذا الشاعر أحمد شوقي يركض رافعاً سيفه قاصداً أبا الطيب و هو يقول :

حياةٌ يغامر فيها أمرؤ – تسلح بالناب و المخلبِ

عجباً ! ، مالذي يحدث في هذا العالم الغريب ؟!
فأجلت عيني باحثاً عن أحدٍ يخبرني الخبر ، فرأيت صديقي الشاعر ناصر المدلج و قد صعد على صندوق خشبي في زاوية البهو و ليس عنده أحد ، فأتيته و قد رفع رأسه إلى السماء قائلاً :
بدأ الشاعر يبني طُرُقه
فقلت له : ناصر ، فقال :
بدأ الشاعر يبني طُرُقه

فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون ! ، مالذي يحدث هنا ؟!
ثم سمعت صارخاً يقول :
كلماتٍ ليست كالكلماتْ

فرفعت رأسي فإذا بالشاعر نزار قباني قد أطل من أعلى بناء القلعة ، يصيح و يعيد :

كلماتٍ ليست كالكلماتْ
حتى زلَّت به قدمه ، فسقط على الأرض ، فأقبلت إليه و هو في الرمق الأخير ، فقلت له : لقد أتعبت قلبك يا أبا توفيق ، و لم تأخذ إجازةً من الشعر يوماً واحداً ، فلم يرد عليَّ ، فقلت له أوصني ، فجمع أنفاسه ثم قال : لا تسمع لكلام النقاد ، فإنهم يحسدون الشعراء على الشهرة و المجد ، و إنك إن تسمع كلامهم تهلك ! ثم لفظ أنفاسه ! يا للهول ، شعراء يموتون ، و آخرون يقتلون !
و سمعت صرخةً فالتفت فإذا الشاعر غازي القصيبي يطلُّ برأسه من إحدى النوافذ المطلة على البهو و يقول :

أنا شاعر الأفلاك كل كليمةٍ – مني على شفق الخلود تلهبُ

ثم أغلاق النافذة فأسرعت و دخلت بناء القلعة فإذا هو كثير الممرات و الغرف فوقفت مكاني ، ثم سمعت صوت رجلٍ قادم يحمل حقيبتين كبيرتين ، فإذا هو غازي ، فقلت له : إلى أين يا أبا يارا ؟ فقال :

سأرحل عنكم لا العيون غريقة – بدمعٍ و لا في القلب أنَّة موجعِ

فقلت له ألا كلمة قبل الرحيل ؟ فقال :
أخفيت عن كمل العيون مواجعي – فأنا الشقي على السعادة أحسدُ
و أنا العليل أجسُّ أدواء الورى – و أنا المرقط بالجراح أضمدُ

فقلت له : يا لنرجسية الشعراء ، و لكن ماذا عن صاحبه النافذة ؟ فتبسم و سار ، فقلت له مغاضباً : ألا تعلم أن العصفورية ليست رواية ؛ لأن نصفها حوار ، و ليست مسرحية لخلوها من الحركة ، و أن شعرك التفعيلي ضعيف ، و أن .. و أن .. ، و لكنه لم يلتفت إليّ !!
ثم سمعت صوت خطوات فأسرعت لأرى من ، فإذا بي أرى رجلاً يدير مفتاحه في قفل باب صغير صدئ ، فتقدمت إليه و قد انفتح الباب عن ظلامٍ موحشٍ ، فسلمت عليه ، فلم يرد السلام ، فقلت له ما هذا السجن ؟! فالتفت إليّ ، و قال :
إنها حجرتي لقد صدئ النسيان فيها و شاخ السكوت

فعرفته و هممت بالتحفي و لكنه دخل ، فتقدمت للدخول فاصطدمت بالباب الذي أوصد في وجهي ، فقلت : ويل له ، يغلق الباب في وجهي !
ثم نظرت في ثقب الباب فإذا بالرجل جالس في وسط الحجرة و قد نثر حوله بطاقات كثيرة و هو يقول :

وحدي هنا في حجرتي و الليل و الفجر الجديد
و رسائل شتى تقول جميعها عيدٌ سعيد
وحدي و أشباح السنين العشر مائلة الوعيد
كم حطمت مني و من زهوي و من مجدي التليد

فرحمته و رقَّ قلبي له ، و سامحته على صلفه ، مسكين فقد أحالته صاحبة فيينا إلى مجنون .
و مضيت حتى رأيت أناساً مجتمعين على رجلٍ مصلوبٍ كأنه قائمٌ فيهم خطيباً ، فأقبلت إليهم و سألت أحدهم عن الخبر ، فقال لي : لقد قال هذا المجرم كلاماً سمَّاه ( شعر تفعيلة ) فقلت أوفعل ذلك ؟ قال نعم ، قلت : لقد أتى شيئاً إدَّاً ! ، و مضيت في سبيلي حتى رأيت أناساً يرجمون رجلاً مسكيناً ، فسألتهم عن ذنبه فقالوا : هو متشاعر لا ينظم الشعر إلا في المناسبات ، فأخذت حجراً و قذفته به .

و مضيت حتى رأيت رجلاً يضرب رجلاً مسكيناً ، فقلت من القوم ؟ فقال الضارب : أنا زيد ، و قال المضروب : أنا عمرو ، فقلت لزيد : لماذا تضرب هذا المسكين ؟ فقال : لأنه سرق واو داود ، فقال عمرو : لم أسرقها بل وجدتها ملقاةً في الطريق ، فحمدت الله على نعمة العقل ، و مضيت حتى رأيت أناساً يكفنون رجلاً حياً ، فقلت لهم : إنه حي ! قالوا : نعم ، نعرف ذلك ، فقلت لماذا الكفن إذن ؟ قالوا : لقد أصدر هذا الرجل عشرين ديواناً حتى الآن و لم يحفظ له أحدٌ بيت شعرٍ واحد فقررنا تكفينه حفاظاً على صحة الشعر ، فقلت لهم سوف تتعبون !

و مضيت حتى لقيت أناساً جالسين كأنهم في محكمة ، و معهم رجل في قفص ، فجلست بجانب أحدهم و سألته عن الرجل المحبوس ، فقال : هذا رئيس تحير يكلف أدباء أجانب بالكتابة عن أدب بلاده في الصفحات الأدبية ، فقطع الحديث صوت القاضي : لقد قررت المحكمة استناداً على ما قدم إليها من وثائق الحكم على المتهم بقضاء عشرين عاماً في السجن يكلف فيها بحفظ و فهم المعلقات العشر و المفضليات و الأصمعيات و طبقات فحول الشعراء و جمهرة أشعار العرب و بعد قضاء مدة السجن يُنفى المتهم إلى بلاد الواق واق مدى الحياة ، رفعت الجلسة ، فأخذ المتهم يصيح : مستحيل .. مستحيل ، فمضيت و في نفسي شفقة و رحمةٌ عليه ، و لكن المحكمة كانت به أرحم !.

و بعد خطوات أوصلني الممر إلى فناء واسع تتوسطه حديقة مظلمة ، لمحت فيها ضوءاً فسرت باتجاهه حتى رأيت أمامي رجلاً جالساً يصطلي بناره ، فتبينته فإذا هو أستاذي الشاعر عبدالله الرشيد ، فحييته و جلست و سألته بالله أن ينشدني شيئاً من شعره ، فقال :

إذا لم أكن للنار أول موقدٍ – فلا كنت ممن يصطلون أُوارها

فقاطعته و قلت : أما الذهاب فلن أذهب ؛ لأني يا أستاذ من أشدِّ المعجبين بشعرك ، و خاصة قصيدة تجليات شوق إلا أنني لم أفهم كلمة (لُبانة) و قد بحثت عنها في جميع المعاجم فلم أجد لها معنى مناسباً لسياقها في البيت ، فقز فجأة ، و أطفأ النار ، و صرخ : أغرب عن وجهي ! ، فعدوت هارباً حتى ظننت أنني نجوت منه ، فتوقفت أجمع أنفاسي ، و لكني لمحت شبحاً واقفاً بين الأشجار يتمتم ، فجمعت شجاعتي و اقتحمت عليه خلوته ، فإذا بي أمام الشاعر إبراهيم ناجي فصرخت من الفرحة : أهلاً و سهلاً بشاعر الأطلال ، لقد اشتقنا إليك كثيراً ، أين كنت يا رجل ؟ قل لي ماذا تفعل في هذا المكان المظلم ؟ فقال :

و منتظر بأبصاري و سمعي – كما انتظرتك أيامي جميعا
و هل كان الهوى إلا انتظاراً – شتائي فيك ينتظر الربيعا

فقلت له : صدقت ، إنهنَّ كاذبات الوعود ، حدِّثني عن الذكريات ، فتنهد ثم قال :

ذهب الصِّبا الغالي و زالت دوحة – مدَّت لنا ظلَّ الوفاء ظليلاً
أيام يخذلني أمامك منطقي – فإذا سكتُ فكل شيءِ قيلا

فصحت : اذهب فأنت أشعر الجن و الإنس ، و هل ينكر هذا الجمال إلا أعمى القلب أعمى البصيرة !
فمضى في الظلام بين الأشجار ، و لكني تذكرتُ شيئاً فهتفت : ناجي ، يا ناجي ، من هي ملهمة الأطلال ؟
و لكنه لم يسمعني ، فندمت ، كيف لم أساله قبل أن يذهب ، ثم خرجت من الحديقة إلى الفناء ، فرأيت شبحاً قادماً من بعيد ، فلما اقترت عرفت أنه الشاعر المهجري إيليَّا أبو ماضي فحييته فلم يرد و استمر في المشي فمشيت إلى جانبه فالتفت إليَّ و قال :
أ أنا السائر في الدرب ؟ أم الدرب يسير ؟

فقلت : هذه معادلة ميتافيزيقية صعبة لا أستطيع الإجابة عليها ، و لكن أريد منك أن تعظني ؛ فأنت شاعر حكيم ، فقال :
طوباك أنك لا تفكر في غدٍ – بدء التعاسة أن تفكر في غدِ
إن كنتَ قد ضيعتَ إلفك إنني – أبكي على إلفي الذي لم يوجدِ

فقلت يا لرقة الشعراء .. ، زدني ، فقال :
و الذي نفسه بغير جمالٍ – لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

فقلت له : صدقت ، إنَّ الفأل حسن ، و لكني أنزعج حينما أسمع من يقول إنك متشائم ، فما رأيك أنت ؟
فقال : لستُ أدري ، فوقفت في مكاني مبهوتاً ، و مضى و هو يردد : لستُ أدري ، فغشيتني حيرةٌ ، و قلت في نفسي : لعله يرد أن يكمل ( الطلاسم ) !

ثم أردت العودة إلى البهو و لكني ضللت الطريق على ما يبدو ، فسلكت أحد الممرات الطويلة حتى رأيت رجلاً يبكي ، فاقتربت منه ، فإذا هو الشاعر علي بن زُرَيق ، فقلت له : ارفق بنفسك يا أبا الحسن ، ما القصة ؟ فقال :
ودَّعته و بودي لو يودعني – صفو الحياة و أني لا أودعهُ
فكم تشفَّع بي ألاَّ أفارقه – و للضرورات حالٌ لا تشفعهُ
و كم تشبثَ بي يوم الرحيل ضحى – و أدمعي مسهلاتٌ و أدمعهُ
لا أكذبُ الله ثوب العذر منخرقٌ – مني بفرقته لكن أرقعهُ

فجرت دموعي رغماً عني و قلت : حسبك ، لقد قطعت قلبي ، و لكن من المخطئ يا أبا الحسن ؟ فقال :

الذنب و الله ذنبي لستُ أدفعهُ
فقلت : حسناً ، حسناً ، خذ هذه البطاقة ، فيها عنوان عيادتي العاطفية ، زرني و لن يكون إلا الخير ، فأخذها و انصرف شاكراً .

فمضيتُ حتى رأيت باباً بجانبه لوحة صغيرة مكتوبٌ عليها “جرير” فطرقت الباب حتى فُتِح فإذا بي أمام جرير فقلتُ : أهلاً و سهلاً بشاعرنا العظيم ، شاعر النقائض ، و لكني عاتبٌ عليك ؛ لأنك أنت و الفرزدق أشغلتم الناس بالهجاء و الشتائم ، و رجعتم بالشعر إلى العصر الجاهلي ، و ساهمتم في حدوث نكسةٍ للشعر – فلمحت في وجهه بوادر الغضب – و حرمتمونا من الشعر الجميل ، و أنا من أشد المعجبين بشعرك – زالت بوادر الغضب – و خاصة قولك :

لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ – و لزرتُ قبركِ و الحبيب يزارُ
و لكن أتعرف ما الذي أفسد جمال هذه القصيدة ؟ – رجعت بوادر الغضب – لقد أفسد جمالها هجومك على أم الفرزدق فما الذي بينك و بينها ؟! فصفعني و أغلق الباب في وجهي ! ، عجباً لماذا لا يتحمل الشعراء النقد ؟

فتركته و مضيت حتى رأيت باباً مفتوحاً فدخلت فإذا بي في مكتب فخم و صاحبه منهمك في الكتابة ، فاقتربت منه حتى انتبه و رفع رأسه إليَ ، فلم أصدق عيناي ! من ؟ عمر بن أبي ربيعة ! للمصادفة العجيبة ! هيا أسمعني من هذا الشعر الذي تكتبه ، فقال : و لكني لا أكتبُ شعراً ، فقد هجرت الشعر ، قلت : فما الذي تكتبه إذن ؟ قال : رواية ، قلتُ : رواية !! ، قال : نعم ، أليست الموضة هذه الأيام كتابة الروايات ؟ فقلتُ له : دعنا من الروايات يا عمر ، و لكن بما أنك من أعلم الشعراء – فقاطعني قائلاً : و الروائيين – قلتُ : و الروائيين بعواطف النساء فإني أعرض عليك العمل عندي مستشاراً في عيادتي العاطفية ، فقال : كم تدفع لي ؟ قلتُ : عشرون ألف ريال ، قال : ريال ! قلتُ : عفواً : دينار ، فقال : تقصد : دولار ، فقلت : نعم ، دولار ، ففكر قليلاً ثم قال : موافق ، و لكني بشرط ، فقلت : ما هو ؟ قال : أن أكون مستشاراً غير متفرغٍ ، فقلت : لماذا ؟ فقال : لأني مشغولٌ بكتابة الروايات ، فقلتُ : كيف نستشيرك إذن ؟ فقال : بإمكانكم إرسال الحالات و الملفات على بريدي الالكتروني ، فقلت له : حسناً ، اتفقنا ، فقال : نعم ، هيَّا اخرج ؛ فقد أضعتَ وقتي ، و ما إن خرجت من عنده حتى سمعت صوتاً من الحجرة التالية ، فأقبلت عليها و دخلت ، فإذا بأبي نواس جالسٌ ، و عيناه حمراوان ، و أمامه رجل قائمٌ ينشد :

طربتُ و ما في الكؤوس غبوقُ – و إنْ كنتُ عن تركها لا أُطِيقُ
أردتُ الرجوعَ كما تفعل الشمـــس تغربُ ثم يعودُ الشروقُ

فصرخت قائلاً : لا مرحباً و أهلاً و سهلاً بالشاعر الشعوبي الهالك ، ألا فلتعلم بأنَّ مطالعك الخمرية سيئة ، و أنَّ أوزانك التي أحدثتها لم يستعملها أحدٌ إلا أنت ، و أنَّ .. ، و أنَّ ..
فقفز الرجل الذي ينشده و خنقني ، و أخذ يضرب رأسي بالجدار حتى أظلمت الدنيا في عيني ، و لم أعد أسمع إلا ( طع ، طع .. ) فشهقتُ و فتحتُ عيني ، فإذا بي في سريري ، فنظرت إلى الساعة : أخ !! ، لقد تأخرت عن الكلية .

كتبت عام 1420هـ، ونشرت في مرآة الجامعة التابعة لجامعة الإمام في تلك السنة، ولكن المحرر حذف منها الكثير، فلم أراسل صحيفة بعدها.

هامش : آخر بيتين لزميلي الشاعر سالم الحكمي.

بواسطة صالح الهزاع

مدون سعودي

تعليق واحد على “ليلة في قلعة الشعراء”

استمتعت كثيرا ً وعيناي تلتهمان كل هذه

الأسطر اللذيذة…

فالواقع هي أشبه بمحطات ٍ تزينها أعلام يشار

إليها بالبنان …

لقد أخذت بأيدينا في هذه الرحلة الشعرية

نتعرف على الشعراء…ونلتمس شيئا ً من

ملامحهم النفسية العجيبة…

كل الشكر

(f) (f) (f) (f) (f) (f) (f) (f) (f) (f) 😀

أكتب تعليقك

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: