التصنيفات
خواطر ومقالات

أزمة الرهن العقاري

تعاني أمريكا هذه الأيام من أزمة اقتصادية كبيرة جداً لا تأثر عليها فحسب ولكن على العالم أجمع، وقد تكون هذه الأزمة بداية لانهيار اقتصادي شامل قد يطيح بأكبر قوة دولية في العالم، وتعيش البورصات العالمية حالة من الفزع والهبوط الكبير المتوالي، وقد أعلنت كبرى شركات التأمين إفلاسها، ولحقتها بعض المصارف الأمريكية والعالمية مما زاد من حالة الفزع من أن تمتد هذه الأزمة إلى مناطق أخرى، فتتبخر الودائع والأموال، وهو ما جعل مؤسسة النقد لدينا تعلن أن الودائع في بنوكنا في مأمن، كما أعلنت الإمارات العربية أنها تضمن جميع الودائع في مصارفها.

وقد تحدث القاصي والداني عن هذه الأزمة محاولين تحليل أسبابها و نتائجها، وقد حاول البعض أن يطمس الحقائق، أو أن يزيفها، ويدعي أن الأزمة أزمة سيولة بينما هي في الواقع أزمة فوائد عالية ومتراكمة أو كما تسمى في كتاب الله (ربا ). وقد حدثت الأزمة بالصورة المبسطة التالية:

يأتي المواطن الأمريكي إلى المصرف لكي يقترض لشراء منزل فيقرضه المصرف بفوائد منخفضة في البداية، ثم ترتفع هذه الفوائد مع مرور الوقت ، وتتضاعف مع التأخر عن السداد ، وتشترط المصارف أن تكون الدفعات الأولى لسداد الفائدة ثم الدين ، ويكون المنزل رهن لدى المصرف حتى يتم سداد المبلغ، ثم فكر المصرف في بيع هذا الدين إلى المستثمرين على شكل سندات ويظفر بالعمولة، ولكن كيف يشتري المستثمرون سندات عقار قد يعجز ساكنوها عن سداد الدين، لذلك فكر المصرف مرة أخرى، وقام بالتأمين على هذه السندات، فاشتراها المستثمرون بلا تردد.

بعد فترة زادت الفوائد على المقترض و تضاعفت كلما تأخر في السداد حتى أصبح المبلغ الإجمالي للمنزل ضعفين أو ثلاثة أضعاف قيمته الحقيقية في السوق ، فقرر المقترض التخلي عن المنزل و التخلص من هذا الدين الثقيل ، و لأن المصرف اشترط عليه أن تكون الدفعات الأولى لسداد الفائدة ثم الدين ، فقد خرج المقترض من المنزل دون أن يحصل على شيء من قيمته لأنه لم يدفع شيئاً من قيمته أساساً ، و إنما كان يسدد الفائدة المتضخمة طوال الوقت.

ولأن المقترض لم يستطع الوفاء بالدين فقد استرد المصرف المنزل من المقترض لأنه مرهون لديه، ولأن هذه حال الكثير من المقترضين فقد اضطرت شركات التأمين إلى الدفع بدلاً منهم حتى دفعت جميع ما لديها، وأصبحت في مأزق، ولأن سندات المستثمرين أصبحت بلا ضمان فقد هبطت قيمتها، ولأن هناك الكثير من المنازل التي استردتها المصارف من المفترضين لما عجزوا عن سداد دينهم فقد تم عرض الكثير من المنازل للبيع.

وبما أن قيمة هذه المنازل مبالغ فيها بسبب الفوائد التي تراكمت على القروض في حين انخفضت أسعار العقارات بسبب قلة الطلب، فلم يعد هناك أحد مستعداً لاقتراض مرة أخرى، وحتى لو وجد فإن المصارف توقفت عن الإقراض؛ لأنها لا تملك سيولة كافية، ولا المستثمر يمتلك السيولة الكافية، ولا المقترضين السابقين يملكون السيولة أيضاً، وهنا حدثت الأزمة، لذلك قالوا بأنها أزمة سيولة، نعم هي أزمة سيولة في ظاهرها، لكنها في جوهرها أزمة فوائد عالية ومتراكمة.

وقد حصل كل هذا لأن هناك خلل في النظام المالي، لأن الذي وضع القانون المالي بشر عرف المقدمات لكنه لم يتوقع النتائج، إذ لا يعلم الغيب إلا الله، ولا نعلم إلا ما علمنا الله، وقد علمنا وشرع لنا النظام المالي الذي يرتضيه لنا، النظام الأصلح لنا وللبشرية جميعاً في كل مكان إلى قيام الساعة، فمن عصى الله فليتحمل وزر معصيته، ولا تزور وازرة وزر أخرى.

وقد تنبه إلى ذلك بعض الأوروبيين ففي افتتاحية مجلة “تشالينجز”، كتب “بوفيس فانسون” رئيس تحريرها موضوعا بعنوان (البابا أو القرآن) أثار موجة عارمة من الجدل وردود الأفعال في الأوساط الاقتصادية. وتساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور المسيحية كديانة والكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا النزاع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيرا إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية.

وتساءل الكاتب بأسلوب يقترب من التهكم من موقف الكنيسة ومستسمحا البابا بنديكيت السادس عشر قائلا: “أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود”.

وفي الإطار ذاته لكن بوضوح وجرأة أكثر طالب رولان لاسكين رئيس تحرير صحيفة “لوجورنال د فينانس” في افتتاحية هذا الأسبوع بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة.

وعرض لاسكين في مقاله الذي جاء بعنوان: “هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟”، المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية.

وفي استجابة -على ما يبدو لهذه النداءات، أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- في وقت سابق قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي.

كما أصدرت نفس الهيئة قرارا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية. والصكوك الإسلامية هي عبارة عن سندات إسلامية مرتبطة بأصول ضامنة بطرق متنوعة تتلاءم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، ومنذ سنوات والشهادات تتوالى من عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد تنبه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها النظام الرأسمالي الليبرالي على صعيد واسع، وضرورة البحث عن خيارات بديلة تصب في مجملها في خانة البديل الإسلامي.

ففي كتاب صدر مؤخرا للباحثة الإيطالية لووريتا نابليوني بعنوان “اقتصاد ابن آوى” أشارت فيه إلى أهمية التمويل الإسلامي ودوره في إنقاذ الاقتصاد الغربي. واعتبرت نابليوني أن “مسئولية الوضع الطارئ في الاقتصاد العالمي والذي نعيشه اليوم ناتج عن الفساد المستشري والمضاربات التي تتحكم بالسوق والتي أدت إلى مضاعفة الآثار الاقتصادية”.

وأضافت أن “التوازن في الأسواق المالية يمكن التوصل إليه بفضل التمويل الإسلامي بعد تحطيم التصنيف الغربي الذي يشبه الاقتصاد الإسلامي بالإرهاب، ورأت نابليوني أن التمويل الإسلامي هو القطاع الأكثر ديناميكية في عالم المال الكوني”. وأوضحت أن “المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية، فمع انهيار البورصات في هذه الأيام وأزمة القروض في الولايات المتحدة فإن النظام المصرفي التقليدي بدأ يظهر تصدعا ويحتاج إلى حلول جذرية عميقة”.

ومنذ عقدين من الزمن تطرق الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد “موريس آلي” إلى الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة “الليبرالية المتوحشة” معتبرا أن الوضع على حافة بركان، ومهدد بالانهيار تحت وطأة الأزمة المضاعفة (المديونية والبطالة). واقترح للخروج من الأزمة وإعادة التوازن شرطين هما تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2%. وهو ما يتطابق تماما مع إلغاء الربا ونسبة الزكاة في النظام الإسلامي.

* الفقرات الملونة بالأزرق الفاتح منقولة من موقع رسالة الإسلام.

بواسطة صالح الهزاع

مدون سعودي

أكتب تعليقك

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: