اقتنيت كتاب الأدب في خطر للمؤلف تزافيتان تودورف وترجمة منذر عياشي من معرض الكتاب الماضي، وشرعت في قراءته قبل أسبوع تقريبًا، كنت قد انتهيت من قراءة نصف الكتاب تقريبًا حينما علمت من صديق لي أنه يقرأ في ذات الكتاب لمترجم آخر، هو عبدالكبير الشرقاوي، ولأن ترجمته متوفرة في الإنترنت حملتها، وقرأتها من البداية لعلها تكون أفضل من الأخرى.
وقد وجدت منذ البداية أن ترجمة عبد الكبير الشرقاوي للكتاب في 63 صفحة من إصدار دار توبقال المغربية أفضل برأيي من ترجمة منذر عياشي في 61 صفحة من إصدار دار نينوى السورية، بالإضافة إلى وجود أخطاء طباعية في ترجمة العياشي، و لا يعني هذا أن ترجمة العياشي سيئة جدًا، فقد ترجم أسماء كتب مذكورة في الكتاب لا أدري لماذا تركها الشرقاوي بلا ترجمة، أقول ذلك بالمقارنة بين ما استوعبته – كقارئ عربي – من الترجمتين، و ليس أدعاء مني بإجادة اللغة الفرنسية.
طبعًا من المفيد للقارئ والكتاب أن يُترجم أكثر من مرة حتى تتم الترجمات بعضها إن كان في بعضها ضعف، أما بالنسبة إلى المترجم فلا أدري ما الفائدة من إعادة ترجمة كتاب إذا كان يعلم أن هناك من ترجمه قبله ترجمة جيدة، فقد صدرت ترجمة الشرقاوي “الطبعة الأولى” عام ٢٠٠٧م أما ترجمة العياشي “الطبعة الأولى” فقد صدرت عام ٢٠١١م.
للأسف لم يقم المترجمان بوضع مقدمة أو تمهيد أو توطئة للقارئ العربي، أو حتى بضعة أسطر على الغلاف الخلفي للكتاب تبرز بعض النقاط المهمة مثل: أهمية الكتاب، و تاريخ صدوره أول مرة، أو تعريف بالمؤلف، و إنما اكتفيا بالترجمة فقط.
وإليكم خلاصة أو بالأدق عرضًا لأبرز ما في الكتاب من أفكار:
في التمهيد تحدث تودوروف عن أبويه و شغفه بالقراءة منذ طفولته، و حبه الأدب خاصة، و سبب اختياره لدراسة العناصر الأدبية التي ليس لها علاقة بالفكر و المعتقد “الإيديلوجيا”، و انتقاله من بلغاريا موطنه الأصلي إلى فرنسا، و تحوله الدراسي، و تعرفه على جرارجنيت و رولان بارت، و تحوله بعد أن ألف فرنسا إلى مواطن فرنسي. ثم تحدث عن سياحته الفكرية و الثقافية في علم النفس و التاريخ و الانتربولوجيا، و أخيرًا عن سبب حبه الآن للأدب. و قد جعلتني أشعر أنني أقرأ في سيرة ذاتية.
و في المقالة الأولى “اختزال عبثي للأدب” تحدث عن دراسة الأدب في الثانويات الفرنسية، و قد تفاجأت بكلام تودوروف فيه، لأنه يرى أن توجه التعليم الذي تعكسه المناهج يميل إلى دراسة النظام الأدبي في حين يفضل تودوروف دراسة الموضوع الأدبي في الثانوية مع إمكانية الإفادة من مكتسبات البنيوية و غيرها، كما يرى أن البنيويين يستولون اليوم على المدرسة كما كان المؤرخون يفعلون بالأمس، و أن هناك سوء استعمال للسلطة، كما يرى أنه من المفيد أن يتعلم الطالب شيئًا من الأدوات، و لكن بشرط أن تبقى أدوات و ليس غايات، و يمكن الإفادة من مكتسبات التحليل البنيوي إلى جانب مكتسبات أخرى دون أن نحقر القديم أو نخصص له الوقت كاملا. و أن غاية الأدب ليست معرفته، و إنما أن يفهم الإنسان العالم و يفهم نفسه فهمًا يقوده إلى الكمال، و يكتشف جمالا يغني تجربته، و أن الدرب الذي يسير فيه تعليم الأدب اليوم يخاطر بنا في طريق مسدود، و لن يصل إلى عشاقه في حال وصوله بسهولة.
و في المقالة الثانية “ما بعد المدرسة” يتساءل تودوروف عما جعل التعليم الثانوي للأدب على ما هو عليه، و يجيب إجابة سهلة و هي أنه انعكاس لتحول التعليم العالي، ثم يتساءل عن مسؤوليته عن حال التعليم بصفته مشاركا في الحركة البنيوية، و من هنا يبتعد تودوروف عن التعليم الثانوي إلى الجامعي متحدثًا عن التحول الذي حدث فيه من بداية الستينات من القرن العشرين و حتى مطلع القرن الواحد و عشرين، أي من بداية مجيئه لفرنسا حيث كانت الداسات الجامعية تقولب الطلاب في قالب تاريخي و قومي، و محاولته بعد ذلك أن يجعل المقاربة الداخلية “دراسة عناصر العمل الأدبي فيما بينها” متممة للمقاربة الخارجية “دراسة السياق التاريخي و الإيدلوجي و الجمالي”، و إنشاء أفضل تعادل بين الداخل و الخارج، و لكن ذلك لم يحدث بل رجحت كفة الميزان بالمقاربة الداخلية، و هو لا يفسر هذا الرجحان بهيمنة البنيوية، و لكنه يفضل أن نحاول أن نفهم من أين جاءت هذه الهيمنة، و يرى أنها جاءت كرد فعل يستلزم القطيعة لما سبق البنيوية من المناهج المذكورة و تكريس البنيوية، مما ساهم في نشوء عدم الاهتمام المتصاعد من الطلاب إزاء مادة الأدب.
ثم يعود و يحاول التفريق بين الثانوية و الجامعة في المناهج و يقترح أن يكون التعليم العالي مشروعًا لتعليم المقاربات و المفاهيم و التقنية و الثانوي لتدريس الأدب ذاته و ليس الدراسات الأدبية.
ثم ينتقل مما سماه اختزال الأدب في الدروس الجامعية إلى اختزاله عند الصحفيين و الكتاب الذين مروا بالمدارس و كليات الآداب، و تعلموا أن الأدب لا يتكلم إلا عن نفسه “لا يمثل الواقع”، و أن الطريقة الوحيدة لتكريمه تكمن في إبراز قيمة عناصره التي يتكون منها، و يتساءل عن تفسير ضعف الأهمية التي يثيرها الأدب الفرنسي خارج حدود المسدس الفرنسي.
ثم تحدث عن الاتجاهات المهيمنة على الأدب و النقد الصحفي في فرنسا في بداية القرن الواحد و العشرين، فبالإضافة إلى الشكلانية هناك رؤية عدمية[1]، مما يعني أن رفض تمثيل الأدب للواقع تحول إلى تمثيل الرفض، و هناك تيار ثالث سماه “الأنانة” و عرفه بأنه نظرة فلسفية تجعل الذات ترى أنها الكائن الوحيد الموجود و المستبعد هامشي، ثم جعل يقارن بين العدمية و “التأبه” حتى خلص إلى أنهما يتممان الاختيار الشكلاني بدل أن يرفضانه[2].
و في المقالة الثالثة “ولادة الجماليات الحديثة” تحدث عن علاقة الأدب بالعالم الخارجي حيث كانت مؤكدةً عند أرسطو “نظرية المحاكاة”، و ثم تحول الشعر في أوروبا المسيحية للقرون الوسطى لنقل العقيدة و تمجيدها، و في عصر النهضة طُلب منه أن يكون جميلاً جمالاً تحدده حقيقته و مساهمته في الخير، و زلزلة العصور الحديثة لهذا المفهوم بطريقتين، الأولى: هي أن الشاعر يبدع عالمًا صغيرًا موازيًا للعالم المادي الموجود و كونًا مستقلا، كما هي النظرة القديمة التي تقارن الشاعر بالإله، و العبقرية الإنسانية بالإبداع الإلهي، فتبقى فكرة المحاكاة و لكن بدون تماثل في النتائج، فالمطلوب هو الاتساق و ليس التطابق. و الثانية: أن الهدف من الشعر إنتاج الجمال لأجل الجمال، و ليس محاكاة للطبيعة و لا للتثقيف و لا الإعجاب، و قد فرضت هذه الفكرة نفسها في القرن الثامن عشر.
و الملمح الثوري فيها أنها تفضي إلى التخلي عن منظور ما يسمى “المبدع أو الخالق” لكي تتبنى “المتلقي”، و من نتائج ذلك أن الحرفي سيتعارض مع الفنان؛ لأن الحرفي يبدع الأشياء النافعة، و الفنان يبدع أشياءً للمتعة، و من نتائجه أن الفنون – مثل الشعر و الرسم و الموسيقى – سوف تجتمع في نظر المتلقي في مسمى واحد، فنقول: الجميلة، و إذا تبنى الجميع هذه النظرة سوف تصبح كلمة “جميلة” حشوًا لأن الفن يتحدد الآن بالجمال، و من نتائج ذلك أن التعليم سيتحول من الإنتاج “نتعلم كيف نكتب” إلى التلقي “نتعلم كيف نقرأ”، و لقد حول الأمران الأول و الثاني مفهوم الفن في القرن الثامن عشر في أوروبا، و وضحا علمنة العالم المتزايدة في أوروبا، و ساهما في تقديس جديد له، و قد جسد الفن في هذه اللحظة من التاريخ حرية المبدع و استقلاله.
و في المقالة الرابعة “جماليات عصر الأنوار” قلب تودوروف ما قال في المقالة السابقة، و قال إن الانتقال من منظور الإنتاج إلى منظور التلقي يوسع المسافة التي تفصل العمل الأدبي عن العالم الذي يتكلم عنه، بسبب إرادتنا أن نراه بذاته و لذاته، و يحاول تودوروف الربط بين هذا التطور و التغير الذي حصل في المجتمع الأوروبي في ذلك العصر، حيث توقف الفنان عن إنتاج أعماله لمن يطلبها، و اتجه بها إلى الجمهور يشتريها منه، و بذلك استقل الفرد و الفن و تحرر من تراتبية الكنيسة و سلطة المدنية على سبيل المثال.
ثم تحدث عن نظرة مفكرين القرن الثامن عشر إلى الفن و الجمال و صلتها بالعالم، و منهم شافيتسبيري” و “جيامباتيسا” و “بومغارتان” و “ليسينغ” أكبر مؤلف للأنوار الألمانية في اثنين من كتبه، كما تحدث عن شاهد على هذه النظرات من مذاكرات “بنجامان كونستان” الذي رافق “جيرمين دي ستايل” في وايمار عام ١٨٠٤م.
و يرى تودوروف أن ما قاله عن الفن بهذا الخصوص هو أول ذكر بالفرنسية للعبارة”الفن من أجل الفن”، كما يرى تودوف أنه ينبغي التمييز بين عدة أنواع من الأغراض أو الأهداف، منها الغرض الذي جعله الفنان لنفسه مسبقًا بقصد إيضاحه، و الغرض الملازم لكل عمل فني و بخاصة الأعمال الفنية العظيمة.
تبدأ المقالة الخامسة “من الرومنسية حتى الحركات الطليعية” بخلاصة للمقالة السابقة حيث يرى تودوروف أن جماليات عصر الأنوار التي يمثلها هؤلاء المفكرين المذكورين بدرجات متفاوتة قد نقلت مركز الثقل أو الجاذبية من المحاكاة إلى الجمال بخلاف النظريات الكلاسيكية، كما أن هذه الجماليات لم تنكر العلاقة التي تربط الأعمال الفنية بالواقع تمامًا؛ لأن الأعمال الفنية تساعد على معرفة الواقع و تؤثر فيه، و لأن الفن ينتمي إلى عالم الناس المشترك.
ثم يتحدث عن جماليات الرومنسية فيرى أنها لم تأت بقطيعة مع العالم هامة، فليس هناك من جديد سوى الحكم على القيمة على مختلف درجات المعرفة، و أن الذي نبلغه عن طريق الفن أعلى قيمة من تلك القيمة التي نبلغها عن طريق العلم، كما يرى أن نظرية الفن يجب أن لا تؤخذ حرفيا، ثم يناقش مقولات لـ”بودلير” و “فلوبير” و “أوسكار وايلد” عن علاقة الفن بالعالم محاولاً إثبات أن العلاقة لم تنقطع تماما إلا في بداية القرن العشرين، و محاولاً بيان سبب هذه القطيعة و تفسيرها و تحديد بداياتها، ثم يتحدث عن علاقة الفكر “الإيدلوجيا” بالنشاطات الفنية و الدراسات الأدبية.
و في المقالة السادسة “ماذا يستطيع الأدب؟” يتخذ تودوروف من قصة انهيار “جوهن سيتوارت” و قصة سجن “شارلوت ديبلو” مدخلاً للحديث عن إمكانيات الأدب فيقول: “يستطيع الأدب أن يفعل الكثير، و يمكنه أن يمد لنا يد العون عندما نكون محبطين بعمق … و أن يجعلنا نفهم العالم على نحو أفضل العالم، و يساعدنا على العيش … و يبقى للقارئ العادي الذي يتابع بحثه في الأعمال التي يقرأها عن معنى يعطيه لحياته”، ثم يقارن بين المعرفة للتجارب الإنسانية التي يقدمها الأدب و التي تقدمها الفلسفة و العلوم الإنسانية.
ثم تحدث تودوروف عن دراسة حديثة للفيلسوف الأمريكي “ريتشارد روتي”، و ناقشها، حيث يقترح ريتشارد أن نسمي مساهمة الأدب في فهم عالمنا تسمية مختلفة، فهو يرفض مصطلحات مثل “حقيقة” أو “معرفة” لوصف هذا الإسهام، و يؤكد أن الأدب يشفينا من تبجحنا بوصفه وهم الاكتفاء الذاتي، و أن قراءة الروايات تختلف عن الأعمال العلمية و الفلسفية و السياسية فهي أشبه بلقاء أشخاص جدد، مع فارق وحيد هو أننا نستطيع في الأدب أن نكتشفهم من الداخل اكتشافًا كاملاً.
و في المقالة السابعة و الأخيرة “تواصل لا ينضب” يعيد تودوروف مناقشة وظيفة الأدب، و العلاقة بين الأدب و الحقيقة من خلال حديثه عن مراسلات الكاتبين الصديقين “جورج ساند” و “غوستاف فلوبير”، فبرغم صداقتهما الحميمة إلا أن تصورهما عن الأدب مختلف، حيث ترى “ساند” أن الأدب يجب أن يخضع إلى الأخلاق، و يرى “فلوبير” أن الأدب يجب أن يتعلق بالحقيقة فقط، و على القارئ استخلاص الأخلاق من العمل الأدبي.
أما تودوروف فيرى أن هذا ليس مناط الخلاف بينهما، بل المناط هو غياب “فلوبير” عن عمله، أي أن “ساند” لا ترى في أدبه صورة عاكسة لشخصية صديقها الذي تحبه و تقدره، فمطلبها الأول يتعلق بالحقيقة و ليس الجودة، لأن هدف الأدب هو تمثيل الوجود الإنساني، فكاتب القصة على سبيل المثال إنسان و القارئ إنسان، فالقصة في النهاية حوار بين البشر الذين يمثلون الموضوع و شخصيات المتصارعين أيضًا.
و من هذا النقطة يتفرع الحديث إلى نقاش حول الشكل و العمق، و الواقعية و العدمية، و الوجود الدنيوي و الأخروي، حتى يعلن تودوروف أن هدفه من استذكار هذا الحوار القديم بين هذين الكاتببن هو أن هناك شيئا مشتركا برغم اختلاف الكاتبين في التأويل، و هو أن الأدب يتيح فهما أفضل للوجود الإنساني، و يغير تكوين القراء من الداخل، و يدعونا تودوروف إلى تبني هذه النظرة، و أن نحرر الأدب من هذا المشد الخانق الذي انغلق و انحبس فيه الأدب، ذلك المشد المصنوع من ألعاب شكلانية و شكاوى عدمية و تمركز أناني على الذات، مما يتيح للنقد آفاقا أوسع إذا خرج من الحجر الشكلاني إلى سجال فكري تشارك فيه كل المعارف الإنسانية.
رأيي الشخصي حول الكتاب:
لقد تفاجأت من رأي تودوروف في آخر حياته حول الشكلانية و البنوية؛ لأنه من المساهمين فيها، ربما شعر بالمسؤولية عما يحدث، و لذلك يمكن أن نصف كتابه هذا بالمراجعة الأدبية إن صح التعبير؛ لأنه يشبه كثيرًا المرجعات الفكرية التي يكتبها المفكرون في أواخر حياتهم، أو عند مرورهم بمنعطف أو منعرج كبير في مسيرتهم الفكرية، و هنا تكمن أهمية الكتاب.
كما تفاجأت من كون المدارس الثانوية في فرنسا تدرس هذه المناهج و الدراسات و النظريات الأدبية التي ندرسها في بلادنا في الدراسات العليا، و تعجبت كيف أن ناقدًا كبيرًا مثل تودوروف لم يستنكف من النظر و الحديث عن مناهج الأدب في المدارس الثانوية، و من الجميل في هذا الخصوص أن نطلع على تجارب من سبقونا حتى لا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء تعليمية، كثيرًا ما نتحدث عن “الدراسات العليا” في الجامعات عند الحديث عن حاضر و مستقبل الدراسات الأدبية ، و ننسى أن البدايات مهمة أيضًا.
[1] – العدمية في الأدب هو الوجه الآخر المقابل للنظرية الوجودية، فالأولى تبحث في الوجود بينما تسعى الأخرى إلى فهم العدم ]انظر موسوعة النظريات الأدبية، للدكتور نبيل راغب ص 446[.
[2] – و هذه المقارنة ص٢٣ موجودة عند عياشي فقط!، و لا ادري ما المقصود بالتأبه.
تعليقين على “تزفتيان تودوروف: الأدب في خطر !”
مما يُخشى يا أستاذ صالح أن يتأثر المترجم فيترك إنطباعه من خلال ترجمته فيظلم المؤلف . ما رأيك في هذا الأمر بعيداً عن جودة الترجمة كترجمة .
جيد