تقديم :
اعتمدت في استخلاص مفهوم الشعر عند إبراهيم عبدالقادر المازني[1] على ثلاثة مصادر: رئيس، و هو كتابه “الشعر: غاياته و وسائطه”[2] الذي نشر أول مرة عام 1915م، و ثانويين، و هما كتاب “الديوان في النقد و الأدب”[3] للعقاد و المازني الذي نشر أول مرة في كتاب عام 1921م[4] ، و ديوان المازني الشعري[5] .
تمهيد :
تحدث المازني في مقدمة كتاب الشعر عن الشعر طارحًا عدة تساؤلات رافضًا نفيَ أيٍّ منها، فلا بأسَ أن يُعدَ الشعرُ من أضغاثِ الأحلام و وساوسِ الأطماع، ثم ينكر على أفلاطون إخراجه الشعراء من جمهوريته، و من هنا يبدأ المازني في استعراض آراء مجموعة من النقاد في الشعر و الشعراء و مناقشتها، و كما وسع المازني من احتمالات ماهية الشعر وسع كذلك من احتماليات ماهية الشعراء، فعدَّ الإنسان حيوانًا شعريًا، و لعله شعر بأنه بالغ مبالغةً جعلته يحط من قدر الشعراء كثيرًا، فعاد واستدرك على نفسه، و أسبغ عليهم من الصفات ما ليس فيهم، فخرج من مبالغة و وقع في أخرى[6].
صرح المازني أن هناك تعريفات للشعر لا تغني المتكلف و لا تبلغ المطلب، و أن حقها التأخير و ليس التقديم، و لكنه فعل عكس ذلك فقدمها عارضًا رأيه فيها و في الشعر عند كل واحد منها، فبدأ بالتعريف العربي الأول للشعر عند قدامة بن جعفر دون أن يشير إلى اسمه، فبين نقصه و اقتصاره على الوزن، ثم ذكر تعريف شلينغ، و هو أن الشعر مرآة الخواطر الأبدية الصادقة، فأنكره؛ لأن الشاعر رهين عصره و بيئته، ثم ذكر تعريف الجاحظ، و هو أن الشعر صياغة وضرب من التصوير، و أشار إلى قربه من تعريف أرسطو و هو أن الشعر فن تصويري، و هو ما يرفضه المازني[7].
الخيال المُحلِّق :
يرى المازني أن العقل البشري حينما يسمع الألفاظ يتمثلها مجرد رموز تمر بسمعه، فيكتفي منها بلمحةٍ دالةٍ تغنيه عن الصورة الحقيقية مالم يردها، و حتى لو أرادها فإنه لا يستطيع تصورها على حقيقتها تماما[8].
لذلك يرى المازني أن الشعر في الأصل إحلال و اقتراح، و ليس تصويرًا، و يقصد بالإحلال إحلال اللفظ محل الصور، و بالاقتراح اقتراح العاطفة، أو الخاطر على القارئ، و لكنه تنزل، فافترض أن الشعر فن تصويري، أو ضرب من التصوير، و نقل كلاما لبيرك يرى فيه أن الشعراء لا يتميزون و يبرعون في شعرهم بالتصوير، و لكن بما يحدثونه في النفوس من العاطفة، فأيَّد ذلك، و قال إنه يصدق حتى على شعر الوصف، رغم كونه ألصق بالتصوير من غيره، و علل ذلك بعلةِ أن الشعر لا يصور الأشياء كما هي، بل كما يراها، فيخلع عليها حلل الخيال بعدما يحركه الإحساس فيحلق[9].
الصور الموحية :
يفرق المازني بين الصورة التي تنبثق عفو الخاطر، و الصورة التي يجبر الخيال و يكره على صنعها[10]، و يفضل الصور الموحية، و المركبة[11] التي تدرك دون كلفة و مشقة[12]، و قد تحدث عن التجديد و التوليد في الصور، فقال إن الألفاظ في جميع اللغات كانت في أول إبداعها و تكوينها ملهبة، تحرك النفوس، و تستفز القلوب، تجيش في نفوس أصحابها كما يجيش خاطر الشعر في الصدور حتى يجد متنفسًا، ثم جمدت، و تحجرت، و أصبحت قاصرةً عن التعبير عما في النفوس، ضيقةً عن الإحاطة بما في الصدور، فكان قصورها و ضيقها مدعاةً لسعة الخيال و إحاطته، و إذا تمكن الخيال من منح المعاني التي يثيرها في ذهن السامع تجديدًا و توليدًا في كل لحظة لذَّ له[13]، “فأما ما يُؤخذ على الخيال مذهبه، و لا يترك له مجالا فهذا هو الغث الذي لا خير فيه”[14].
العاطفة الصادقة القوية :
يرى المازني أن العاطفة[15] أو الشعور أو الإحساس القوي هو الذي يحرك الخيال، و أن قيمة الشعر بما يثيره في النفوس، و أن الشعر أقرب للعواطف و المشاعر من العقل، و أقرب للإحساس من الفكر[16].
يقول: “و كذلك لا بد في الشعر من عاطفة يفضي بها إليك الشاعر و يستريح، أو يحركها في نفسك و يستثيرها، و إذا كان هذا هكذا فقد خرج من الشعر كل ما هو نثري في تأثيره[17]، أو ما كان في جملته و تفصيله عبارة عن قائمة ليس فيها عاطفة، و لا هو مما يوقظ عواطف القارئ و يحرك نفسها و يستفزها، مثل شعر الحوادث اليومية التي ولع بها حافظ و أشباهه ممن لا يفهمون الشعر، و لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، و لا يرمون به غير المكسب، و مجاراة العامة من القراء و الكتاب و الأميين أيضا، و مثل شعر المديح الذي اكتظت به دواوين الشعراء العرب … إلى آخر هذا الهراء السخيف”[18].
الموسيقا :
يرى المازني أن الموسيقا جوهرية و ضرورة في الشعر، و ينكر أن يعد النثر الذي يشبه الشعر في العاطفة و الخيال و التأثير شعرًا[19]، و لكنه لم يتحدث عن وجوب التقفية في كتابه عن الشعر، و إذا علمنا أنه من أوائل من كتب الشعر المرسل في مصر أدركنا أنه لا يشترط التقفية في الشعر[20].
الجمال :
يرى المازني أن الشعرَ ملكةٌ و طبعٌ و حسنُ تأدية[21]، و قد تحدث عن وسائط الشعر[22]، ويقصد بها جماليات الشعر من وجهة نظره، كما تحدث عمَّا يضادها، أي عيوب الشعر[23] التي تذهب بجماله، و قد خصَّ الغموضَ و تكلفَ البديعِ و التصنعَ من بين هذه العيوب بالحديث[24]، و يمكن أن ندرجَ ما انتقده المازني والعقاد في كتاب الديوان على شوقي و حافظ من عيوب الشعر، و منها: التفكيك والإحالة، و التقليد، و الولع بالأعراض دون الجوهر، و يمكن أن ندرج كذلك ما افتقداه في شعر شوقي و حافظ من غير العناصر الشعرية الكبرى من جماليات الشعر، و منها: الوحدة العضوية[25].
التأثير الشعري :
يرى المازني أن الشعر يتميز بالتأثير[26]، و قد تحدث عن سبب التأثير، فقال: “فليس فضيلة التأثير إلى ارتباط الكلم بعضها ببعض ونتاج ما بينها و لا إلى خصائص يصادفها القارئ في سياق اللفظ و بدائع تروعه من مبادئ الكلام و مقاطعه و مجاري الفقر و مواقعها و في مضارب الأمثال و مساق الأخبار، و لا إلى أنك لا تجد كلمة لا تنبو بها مكانها أو لفظة ينكر شأنها، بل فضيلة التأثير راجعة أيضا إلى شعور جم و إحساس قوي بما يجري في الخاطر و يجيش في الصدر و إبراز ذلك في أحسن حلاه”[27].
خلاصة :
نستخلص مما سبق أن الشعر عند المازني هو ما اجتمعت فيه عدة عناصر، هي: الخيال و الصور و العاطفة و الموسيقا و الجمال و التأثير، و أن هذه العناصر مترابطة متداخلة مكمل بعضها بعضًا[28]، فمنها ما يكون قبل تخلق الشعر، و منها ما يكون أثناء التخلق، و منها ما يكون بعد التخلق، و قد يتدخل العنصر في أكثر من مرحلة[29]، ومنها ما هو متعلق بالشاعر كالعاطفة الصادقة، و منها ما هو متعلق بالمتلقي كالتأثير، و منها ما هو متعلق بالاثنين كالجمال[30].
المصادر :
1- الشعر “غاياته و وسائطه”، لإبراهيم عبدالقادر المازني، تحقيق الدكتور فايز ترحيني، دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية، 1990م.
2- الديوان في النقد و الأدب، لعباس محمود العقاد و إبراهيم عبدالقادر المازني، دار الشعب، القاهرة، 1997م.
3- ديوان إبراهيم عبدالقادر المازني، ترجمة و تقديم و تحقيق نشأت المصري، مكتبة جزيرة الورد، بيروت، الطبعة الأولى، 2009م.
[1] ناقد، و شاعر، وكاتب، و صحفي مصري، ولد عام 1889م، و توفي سنة 1949م.
[2] الطبعة التي بين يدي الثانية عن دار الفكر اللبناني، بيروت، 1990م، تحقيق الدكتور فايز ترحيني.
[3] الطبعة التي بين يدي الرابعة عن دار الشعب، القاهرة، 1997م.
[4] و قد جعلت الأول أساسيًا لأنه خالص له، أما الثاني فهو شريك فيه، و لأن موضوع الأول الأساسي هو الشعر، أما موضوع الثاني فهو نقد الشعر و النثر، و البيان عن اتجاه جديد في الشعر اختاره مؤلفاه، و الحديث فيه عن مفهوم الشعر يأتي مضمنًا، و أقل من الأول.
[5] طبع ديوان المازني في جزء في القاهرة 1913م، وطبع في جزئين في القاهرة 1917م، و طبعت ثلاثة دواوين في مجلد واحد عن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في القاهرة 1961م، و طبعت أعماله الشعرية الكاملة عن مكتبة جزيرة الورد في بيروت عام 2009م.
[6] انظر كتاب الشعر، الصفحات 34-38، و أرى أن اعتقاد العرب قديما أن للشعر و الشعراء علاقة بالسحر و الجن قد أثرَّ على النقد العربي تأثيرًا سلبيًا، و أسهم في تأخر تحديد مفهوم الشعر، و في دقة تحديد مفهومه، و يبدو أن هذا الاعتقاد راق لبعض النقاد و خاصة من كان منهم شاعرًا، و استقر في لاوعيهم، فما زالوا حتى اليوم يذكرونه أو يشيرون إليه من طرفٍ خفي، و إذا برأنا المازني من ذلك قلنا إنه ربما أراد لمقدمة كتابه أن تكون مُدخلاً عامًا جذابًا مشوقًا للقارئ لمتابعة القراءة، و معرفة ذلك الشيء الذي بالغ في وصفه وصفا ضبابيًا من بعيد.
[7] انظر المصدر السابق، الصفحات 36-38
[8] انظر المصدر السابق، الصفحات من ٣٩-٤٤
[11] انظر المصدر السابق ص53 و ص56
[12] انظر المصدر السابق ص46، و ليس معنى ذلك أن تكون واضحة تمامًا، ولكنها منزلة بين الغموض و الوضوح.
[13] انظر المصدر السابق ، الصفحات 50-55
[15] لا يوجد –للأسف- معيار نقدي تقاس به العاطفة رغم إصرار الدراسات الأدبية التقليدية على تناولها.
[16] انظر المصدر السابق ص٥٧
[17] ألمح هنا ميلاً عند المازني إلى تفضيل الشعر على النثر بجعله تأثير الشعر مختلفًا على تأثير النثر، و قد تحدث عن ذلك في أكثر من موضع، و لكنه لم يحدد هذا الاختلاف.
[19] انظر كتاب الشعر الصفحات ٦٤-٦٨
[21] انظر المصدر السابق ص85 و ص86
[22] انظر المصدر السابق صفحة ٦٩ و ما بعدها.
[23] من الظلم لمؤلفي كتب النقد العربي القديمة أن نخرج حديثهم عن عيوب الشعر من ماهية الشعر؛ لأنهم إنما تحدثوا عن العيوب التي تذهب بجمال الشعر لأنهم يرون أن الشعر لابد أن يكون جميلاً، و كذلك حديثهم عن اللفظ و المعنى، فإنما هو متصل بالجماليات.
[24] و ضرب مثالاً تقليديًا بالموازنة بين أبي تمام و البحتري ]انظر كتاب الشعر، الصفحات 70-93[، و أرى أن من عيوب كثير من كتب العلوم الإنسانية التي تتحدث عن النظريات المعرفية أنها جامدة تقليدية في ضرب الأمثلة، و الأولى بمن يُنظِّر فيها – و في الإبداع اللغوي خاصةً – أن يكون مبدعًا في تنظيره.
[25] انظر كتاب الديوان، الصفحات 130-165
[26] انظر كتاب الشعر، الصفحات ٦٥- ٦٩، و قد مرَّ بنا أنه يميز بين تأثير الشعر و تأثير النثر.
[28] فما تغني العاطفة الصادقة القوية إذا كان الأداء ضعيفًا مثلاً.
[29] و لعل ذلك هو سبب تبعثر حديث المازني عن العنصر الشعري الواحد في كتاب الشعر رغم محاولته الحديث عنها بالترتيب، فعندما تحدث عن الخيال مثلاً تحدث عن الصور، و عندما تحدث عن العاطفة تحدث عن التأثير.
[30] عندما يتفق الشاعر و المتلقي على مقاييس الجمال الشعرية يحدث التأثير و الاستحسان، و إذا لم يتفقا لم يحدث، و تختلف المقاييس بسبب اختلاف الطبائع و الأذواق و الأمزجة و الإيدلوجيا.