تقديم:
تطمح “لسانيات النص” إلى استخلاص قواعد نحوية تركيبية تجاوز الجملة إلى النص، وهو ما يسمى بـ “نحو النص”، وتطرح بعد ذلك تساؤلاً مفاده: هل يمكن للقواعد المستخلصة من نمط خطابي أن تكون قسمًا من لسانيات الخطاب؟ لا شك أنه طموح مشروع حاول تأصيله بعض اللسانين العرب، ولاشك أنه تساؤل وجيه سوف يكثر حوله الأخذ و الرد، ولست هنا بصدد الإجابة عليه، وإنما أردت أن أقدم بين يدي هذه المحاولة التطبيقية على وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنهما إلماعة إلى ما تطمح إليه لسانيات النص، وإلى ما يمكن أن تفعله بعد أن تحقق طموحها.
النص:
قال فطر بن خليفة عن عبد الرحمن بن سابط قال: أوصى أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب رحمه الله حين استخلفه فقال: “إني مستخلفك من بعدي، و موصيك بتقوى الله: إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، و عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، و إنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق أن يكون ثقيلاً، و إنما (التكرار) خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل و خفته عليهم، و حق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا. إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، و تجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت إني أخاف أن لا أكون من هؤلاء. و ذكر أهل النار فذكرهم بأسوء أعمالهم، و لم يذكر حسناتهم، فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون من هؤلاء. و ذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون العبد راغبًا راهبًا، و لا يتمنى على الله غير الحق، و لا يلقي بيده إلى التهلكة. فإذا حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، و هو آتيك، و إن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أبغض إليك من الموت، و لست بمعجز الله”. اعتماد المتكلّم توليد المشتقات بعضها من بعض لسبك النصّ و جعله مترابطا. [كتاب: التعازي و المراثي][1]
أولاً: العناصر النحوية التي أسهمت في تماسك النص.
تبرز في النص ظاهرة تركيبية دلالية أسهمت في تماسكه، و هي ظاهرة التقابلات بين الجمل، فقد اعتمد المتكلّم على توليد المشتقات بعضها من بعض لسبك النصّ و جعله مترابطا، بالإضافة إلى استخدام المقابلات الدلالية، كما أسهم حرفا العطف “الواو” و “الفاء” في تماسك النص جميعه[2] حيث جاءت جميع الجمل معطوفة باستثناء جملة الابتداء، و جملتي: “إن لله عملاً…” و”إن الله ذكر…”، و قد أسهم هذا الفصل أيضا في تماسك النص، فسبب الفصل في الجملة الأولى مثلاً هو انتقال صيغة الخطاب[3] من الحكاية إلى الخبر، و سبب الفصل في الجملة الثانية هو التأكيد[4] ، فكما يكون العطف عنصرًا نحويًا يسهم في تماسك النص قد يكون عدم العطف مسهمًا في تماسك النص. و من العناصر النحوية التي أسهمت في تماسك النص كذلك: الارتباط بين الشرط و الجزاء.
ثانيًا: نماذج التكرار، و وظيفتها في الخطاب.
يدخل التكرار ضمت الاتساق المعجمي في اللسانيات، و قد تكون وظيفته[5] بناء الخطاب، فيعاد فيه اللفظ بنفس المعنى، إما بطريقة الصورة الجزئية، و مثاله في النص تكرار الضمائر: “إني – بعدي”، “مستخلفك – موصيك” أو تكرار الأسماء: ” الله – الله”، “الموت – الموت” أو تكرار الأفعال: “ذكر – ذكر”، فهو تكرار لخشية تناسي الأول لطول العهد به. أو بطريقة الإجمال و التفصيل، و مثاله في النص: “موصيك بتقوى الله: إن لله عملاً …” ففيها تفصيل بعد إجمال، و “…و إن ضيعت وصيتي” ففيها إجمال بعد تفصيل. و قد تكون وظيفة التكرار انسجام الخطاب حينما يكون التكرار معنويًا، إما بذكر النقيض، و الإتيان بالأضداد، و مثاله في النص من الأسماء “الليل – النهار” و “الجنة – النار” و “الحق – الباطل” و “الرحمة – العذاب”، و من الأفعال “أحب – أبغض “، أو بإيراد الملائم مثل: “الفريضة – النافلة” أو بالانجرار[6] مثل: “عملاً – ميزان”.
ثالثًا: دور أسلوب التعليل في بناء صورة المتخاطبين في النص.
يظهر دور التعليل في بناء صورة المتخاطبين من خلال استعماله إجابة لسؤال متوقع في موضوع التخاطب[7] ، و هو الاستخلاف، فالمستخلِف و هو أبوبكر يوصي المستخلَف و هو عمر بوصايا؛ لأنه سيحل محله، و يقوم بعمل الخلافة من بعده، و يعللها له، أي يذكر سبب قول هذه الوصايا له، لأن أبا بكر يتوقع من عمر التساؤل عن سبب كل وصية.هي صورة متكلّم يعلّم و يوجه و صورة مخاطب يتعلّم و يطلب فهم الأسباب و لا يقتنع بالتنائج
رابعًا: العناصر التلفظية الدالة على أنَّ الخطاب وصية، و التعريف اللساني اللفظي لجنس الوصية.
من الواضح أن الخطاب وصية؛ لأن ملفوظاته تدل على عناصر التلفظ و هي: المتلفظ وهو أبوبكر، و الظرف المخصوص و هو تذكر الموت و الآخرة، و المخاطب المخصوص و هو عمر ، فالمفلوظات التي تدل على المتلفظ هي: “إني، بعدي، مستخلف، موصي، ذكرتُ، خفتُ، قلتُ، وصيتي”، و الملفوظات التي تدل على الظرف المخصوص هي: “الجنة، النار، الرحمة، العذاب، الموت، الميزان”، و الملفوظات التي تدل على المخاطب المخصوص هي: ضمائر المخاطب في “مستخلفك، موصيك، حفظتَ، ضيعتَ، آتيكَ، أحب إليكَ، أبغض إليكَ، لستَ بمعجز الله”. و عليه يمكن أن نعرف جنس الوصية تعريفًا لسانيًا تلفظيًا فنقول: إنها ملفوظات يتلفظ بها متلفظ قبل موته إلى مخاطب مخصوص لإقناعه و التأثير فيه[8] ، فهي جنس حامل لآثار التلفظ، و لا يمكن فهمها بدون سياق[9].
المصادر و المراجع:
1- التعازي و المراثي، للمبرد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1996م.
2- لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب، لمحمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2006م.
3- التداولية عند العلماء العرب: دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي، للدكتور مسعود صحراوي، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى، 2005م.
4- الخطاب الأدبي و تحديات المنهج، للأستاذ الدكتور صالح الهادي، نادي أبها الأدبي، الطبعة الأولى، 2010م.
[1] التعازي و المراثي، للمبرد، ص 73.
[2] هناك مسوغات كثيرة للعطف، انظر كتاب “لسانيات النص” الباب الثاني “المساهمات العربية” فصل “البلاغة” مسألة “الأساس النحوي” عند الجرجاني ص100، و مسألة “الأساس النحوي” عند السكاكي ص111.
[3] انظر كتاب “لسانيات النص” ص108
[4] انظر كتاب “لسانيات النص” ص107
[5] انظر وظائف التكرار في كتاب “لسانيات النص” ص134
[6] الانجرار هو أن يؤتى بالشيء و ما يستعمل فيه.
[7] انظر مفهوم “موضوع التخاطب” في كتاب: “لسانيات النص” لمحمد خطابي، المركز الثقافي، الطبعة الثانية، 2006م.
[8] و هو الفعل المتضمن في القول، انظر كتاب: التداولية عند العلماء العرب: دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي” لمسعود صحرواي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص42.
[9] انظر كتاب “المنهج الأدبي و تحديات المنهج” للأستاذ الدكتور صالح الهادي رمضان، المدخل الثامن.