التصنيفات
كتب وقراءات

سوسيولوجيا الغزل العربي، الشعر العذري نموذجا

 

كتاب لعالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب عن الغزل العربي العذري، النسخة التي بين يدي من نشر “المنظمة العربية للترجمة” عام 2009م، و هي الطبعة العربية الأولى التي ترجمها المؤلف بنفسه، حيث كتبت هذه الدارسة أساسًا بالفرنسية، صُدِّر الكتاب بكلمة يثني فيها المستشرق الفرنسي أندريه ميكال على دراسة المؤلف، و يؤكد فيها أنها ستغير نظرة القارئ إلى الحب العذري، و قد صدق في ذلك بالنسبة لي، ثم قدم المؤلف لترجمته العربية متحدثًا الترجمات العربية السابقة، وتحدث عن ترجمة الكاتب لنفسه.

في المقدمة (17-20) تحدث المؤلف عن النظرة التقليدية لتاريخ الأدب العربي، ثم انتقد نظرية الانعكاس، ثم تحدث عن الفكرة الموروثة عن العذريين، و هي أنهم من وجه نظر دينية أكثر الشعراء متثالاً؛ لأنهم يتغنون بالحب دون الوقوع في اللذة الجنسية المحرمة، ثم تحدث عن صعوبات البحث و النتائج المفاجئة التي وصل إليها، و عن الخطة التي سار عليها في دراسته، ثم ختم مقدمته بملحوظتين: تتعلق الأولى بمرونة منهجه كما قال حيث اهتم بالجانب اللساني في دراسته على خلاف قولدمان الذي لا يرى أهمية للجانب اللساني في البنيوية التوليدية، و يبرر اهتمامه بأن اللغة هي التي خارج الواقع و ليس اللسان، و تتعلق الثانية بتوافق دراسته مع دراسة قولدمان في “الإله الخفي” حيث كانت الفئة المدروسة عندهما هامشية، و يتساءل هل النقد الاجتماعي لا يهتم إلا بالهامشي، و يرى أن افتراض الجواب عبث.

قسم المؤلف الدراسة أربعة أبواب، و قسم الباب الأول و هو بعنوان “المادة الأولى” فصلين:

الفصل الأول (23-36) و هو بعنوان “الجنسانية و اللسان العربي” و قد تحدث فيه المؤلف عن العلاقة بين اللغة و الجنس بشكل عام، ثم العلاقة بين اللسان العربي و الجنس على مستوى القصص في التراث العربي و في الثقافة الإسلامية، ثم تحدث عن هذه العلاقة من وجهة نظر نفسية حيث تبدو اللغة طورًا، و الصورة المجازية تعويضًا أكثر مما هي عمل فني، كما تحدث أيضًا عن علاقة البلاغة العربية و النحو و المعجم العربي الدلالي بالجنس، و توصل فيها إلى تمييز بين الجنسين و تفضيل الذكورة على الأنوثة، و ختم الفصل بالتساؤل عن كيفية إمكان التلازم بين تجنيس اللسان و الفصل بين الجنسين؟ و أجاب على ذلك بظاهرة عجيبة كما يقول، و هي أنه يعتقد أن مجمل المجتمع العربي لا يقبل التوازي بين التواصل الجنسي و التواصل اللفظي في الزواج بينما يتسامح به خارج الزواج، و هو يرى أن في غياب التعبير العاطفي بين الزوجين جانبًا من الدفاع الجماعي عن الذات، فكلما ازدادت حميمية الزوجين انغلقت ثنائيتهما، و قلَّ انفتاحهما على الآخرين.

الفصل الثاني (37-44) و هو بعنوان “يوسف: النموذج القرآني المعدل” يتحدث المؤلف عن تغيير الإسلام في اللسان العربي، و يؤكد ما توصل إليه في الفصل الأول من خلال قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم، و في الحاشية قارنها بما ورد في سفر التكوين.

أما الباب الثاني و هو بعنوان “الشعر: الثبات و الصيرورة” فقد قسمه فصلين:

الفصل الأول (47-65) بعنوان “البنية و الدلالة” و قد تحدث فيه عن مقصده بالبنية فعرفها، و ذكر أنه يحاول الإمساك ببنية دالة شاملة مع إبراز بعض البنى الصغرى التي لها دلالة خاصة مهمة، و ذكر أن سينطلق من بديهية هي أن مدونة الشعر العذري لها كل متماسك، ثم تسائل عن العلاقة بين عالم الواقع و العالم الأدبي، فتحدث عن نشأة مفهوم الانعكاس و أثره السلبي على الدراسات الأدبية عامة و العربية خاصة، و هو الإفراط في استخراج المعطيات التاريخية من العمل الأدبي، و الإفراط في تفسير هذا العمل بعوامل تاريخية، ثم تحدث عن مصطلح “المجموعة الاجتماعية” و ذكر أنه لم يتخذ موقعًا مناسبًا و دقيقًا في دراسات الأدب العربي، و تحدث عن نظرة النقد الاجتماعي إلى الشاعر داخل هذه المجموعة، ثم تحدث عن عناصر البنية و تشكلها عادة عبر سيرورة طويلة و معقدة في ثلاث نقاط، تحدث خلالها عن التناص و التماسك و الإخلال بالتوازن، و انتقد التحقيب السياسي للعصور الأدبية، و فسر الانتحال من وجهة نظر سوسيولوجية، و كذلك الأغراض الشعرية، و خاصة الغزل و الفخر، و انتقد أصحاب فكرة الاحتذاء في الشعر العربي القديم الذين حاولوا أن يحلوا محل الجمهور القديم، و جهلوا الأبعاد السوسيولوجية للشعر العربي القديم، و ختم الفصل بالحديث عن مكانة الشعر عند العرب و معايشة الإسلام له.

الفصل الثاني (67-87) بعنوان “التطور من الملحمي إلى العذري” سعى المؤلف إلى تجاوز البنية العامة التي حددها في الفصل السابق للوصول إلى فاعل تاريخي محدد، يجعل التغييرات قابلة للتمايز، فالتفاعل بين البنية و الفاعل يذكرنا بالطبيعة التوليدية للبنية، في هذا الفصل الوسيط تحدث المؤلف عن بنية جزئية (مقارنة بالبنية العامة للشعر) و هي بنية عالم الغزل قبل و بعد الإسلام بين النظرية السطحية و العميقة للأغراض الشعرية، و تحدث عن فقدان التوازن في العلاقة بين أغراض القصيدة التقليدية، و تحدث عن التصنيفات للشعر و الشعراء في الجاهلية و الإسلام التي اعتمدت الغرض أساسا للتصنيف، و التي اعتمدت المناطق الجغرافية كتصنيف “بلاشير” و مقابلاته السياسية و الدينية بين الشعراء، و مكانة المرأة في الاتجاهات المختلفة لشعر الغزل بعد الإسلام، و علاقة المرأة بالرجل المحب.

ثم تحدث المؤلف عن سمات الرجل الذكر التي يجملها الشعر، و بعض الجوانب من بنية الذهنية التي سادت قبل انتشار التصورات الإسلامية و بعدها، و تغيرها، و تغير دور المرأة تبعًا للرجل، و هو يرى أن البطل ملحمي نصف أسطوري في الشعر قبل الإسلام و بعده، و لكن هناك فوراق بينهما، فالبطل قبل الإسلام وحيد، و ناقش فكرة أن العربي لا حرية فردية له قبل الإسلام داخل المجموعة، و أنه دخل الإسلام بدافع التخلص من تسلط العشيرة، و رأى أن الأقرب هو أن الفرد وجد نفسه عبر تصور الأمة الإسلامية في عالم مغلق يملأه أصحاب عقيدة واحدة متساوين كأسنان المشط، و يوازن بين هذا التحول الاجتماعي و التحول الشعري من شخصية السادية إلى مازوشية، حيث تحول البطل السادي في المعارك إلى بطل عاطفي في الغزل، و يقصد بالمازوشية هنا مجرد الرغبة في الآخر و اللذة في التخلي عن الذات و تحمل الأسى و عجزه أمام العقبات و استسلامه للحبيبة، و يرى أن الشعراء العذريين أعلنوا قبل المتصوفة عن ظهور توجه مازوشي مرتبط ارتباطا مباشرا بالتصور الجديد لأمة إسلامية، و يرى كذلك أن تمثل الموت يميز بين شخصيات المجتمعين، فالجاهلي أقل حديثًا عنه من المسلم، و الإحساس التراجيدي الذي كان يتملك البطل الجاهلي أمام الموت يغيب عن المسلم الذي يرى الحياة ممرًا إلى الآخرة، و بينما يتعلق الجاهلي بما قبل الموت يتعلق المسلم بما بعده، و أدهى ما يمكن أن يحدث للجاهلي هو أن يموت قبل الوصول إلى هدف دينوي، بينما غاية الشرف أن يموت المسلم في سبيل الله حتى يفوز في الآخر، و يكون الخزي و العار و النار جزاء خصومه أعداء الأمة، و ختم الفصل بخلاصة له يرى فيها أن لعبة الارتداد إلى العدم عند الجاهلي ليست إلا ثنائية الحب و الموت اللذين لا ينفصلان كونيا، و لا ثبات في العلاقة بينها، و يضرب مثلاً لهذه العلاقة متصل بموضوع الدراسة و هو الحرب بصفتها شكلاً خاصًا من أشكال الموت، فقد استعمل الشعراء منذ القديم استعارات مجازية للتعبير عن اثر الحب، مما يشير إلى علاقة وثيقة بين الغريزة الجنسية و غريزة المحاربة، و هو ما يؤكده المحللون النفسيون و الأنثروبولوجيون، و يفرغ إلى أن الشعراء العذريون عوضوا قوة الملحمة الجاهلية التي غير الإسلام بعض عناصرها الأساسية بقوة الحب المطلقة.

أما الباب الثالث و هو بعنوان “العالم العذري” فقد قسمه خمسة فصول:

الفصل الأول (91-99) بعنوان “تعريف” و قد عرف فيه العمل الأدبي سوسيولوحيا، و هو عالم رمزي تبنيه مجموعة اجتماعية يمثلها المؤلف، و لها موقف مشترك من هذا العالم الذي تكون لبنته –إذا كان لها التماسك الكافي- علاقة تجانس مع بنية عالم المجموعة الواقعي، و بين قصده بكلمة مجموعة، و هو”نسق علاقات دالة يستند إليها أعضاء المجموعة في تأويل علاقاتهم بالغير، و في بحثهم عن حلول لمشاكلهم الخاصة”، و ينتقد ربط الواقعة الأدبية بجيل، و يفضل الانطلاق في تتبع الرمز العذري من العام إلى الخاص، من البعد الكوني إلى الإيديولوجيا العربية الإسلامية، ثم إلى مجموعة تاريخية محددة، يكشف عنها على الصعيد النظري التباعد بين الشعر و الواقع، ثم تحدث عن تعريف الحب العذري، و اشتباهه بالكوريتزيا و علاقته بالكاتار و الترابادور، و ناقش آراء بعض الناقد الغربيين في ذلك، و أشار إلى التباس العذريين و المتصوفة العرب في ذهن أحدهم بدليل أنه يستشهد بأقوال المتصوفة في عرض آرائه تجاه العذريين، و علل المؤلف ذلك إلى أخذ التصوف الإسلامي في الغالب على أنه إحدى الصيغ التي أفضى إليها الحب العذري، و وضح هذه النقطة في الحاشية، و ذكر في المتن أن هذه المرجعية تكسب رؤية العالم العذرية اتساعًا كبيرًا يتجاوز عند التحليل الغرض الأدبي، ثم ذكر رأي ماسنيون في الحب العذري، و ذكر أن مزية رأيه أنه يلفت الانتباه إلى الجانب المخيالي من الغرض الشعري و إلى الجانب المثالي من المجموعة الاجتماعية و وصفة للعفة أنها غير مقدسة، و في ذلك فك ارتباطها بالدين خلافًا للتفسيرات التبسيطية بالانعكاس، و يعني أن الغرض في الشعر يبقى نتاج فاعل اجتماعي، و أن التعبير في نهاية الأمر تعبير عم طموحات للفاعل الجماعي، و إذا نظرنا في كلية الحب العذري المتماسكة عرفنا أنها تعبر عن أقصى الوعي الممكن عند العذريين، و هو الرفض وفاءً لمبدأ العفة الذي حدده من خلال أثر لأحد العذريين، ثم تحدث عن العلاقة بين العفة و الجمال، و وازن بين العذري و المؤمن، و وجد تجانسًا يرى إبرازه بدلاً من الربط بين العفة و الإسلام ربطًا بين سبب و نتيجة، ثم تحدث عن مأتى تفسير العفة بالعامل الديني و هي روحانية يجهد كثيرون أنفسهم في استخلاصها لعدم وجود ما ينزع الجمال عن حسيته في الشعر العذري، ثم تحدث عن علاقة العذري بالتراجيديا اللوكتشية و هي وجود “إله” متفرج، و ذكر أنه سبق و افترض أن المسلم في أمته لم تكن له رؤية تراجيدية للعالم، و تساءل عن وجوب تعديل هذه الفرضية، و أجاب: “ربما، إذ من المغري أن نرى في العلاقة بين الجمال و العفة صراعًا تراجيديًا إلى حد ما”، و ختم بخلاصة عن التعريف العذري بناء على تعريف العمل الأدبي الذي ذكره في بداية الفصل.

الفصل الثاني (101-111) بعنوان “محاولة للتجاوز”، و يتحدث في بدايته عن العالم العذري الذي تم بناؤه داخل عالم الأمة الإسلامية المغلق الواسع معًا موازاةً لبناء عالم ديني تتطلب صيرورة طبيعته المفتوحة على مصيره أن يبقى مفتوحًا من الخارج، هذا التوازي لم يمكن العذريين من العودة إلى نظام المنافسة و البطولة حيث يواجه عنترة المحن ليكون جديرًا بابنة عمه عبلة، و إنما مكنهم من إيجاد حل لوضعهم عن طريق تجاوز مفهومي كان عليهم تحقيقه على مستوى آخر، و في اتجاه آخر، و هو أن يجنحوا في الإحساس باليأس و الضياع إلى إحساس إنساني عميق في كونيته، و أن يضعوا أنفسهم في مواجة السائد، أي فيما وراء المباشر و العرضي و الظرفي الذي ارتبط به شعراء العصر الآخرين، ثم تحدث عن تحليل “دو رجمون” لرواية “تريستان” و “إيزوت” و السرديات العربية التي تشكل بنية عامة للمقارنة ببنى بعض الروايات الغربية من جهة الأغراض، و على مستوى التتابعات الكبرى التي يمر بها مصير المحبين، ثم تحدث عن الروايات العربية القديمة و أنها موضوع تحفظ، و أن جزءًا من الشعر العذري انتحال متأخر، و أن بعض المحبين و أولهم مجنون ليلى هم في أغلب الظن من اختراع المخيال السردي، و هذا لا يقلل من أهميتها؛ لأنها تأويل جماعي لهذا العالم الشعري، تزداد أهميته بالنسبة إلى النقد الاجتماعي بخلاف النقد الأدبي الذي يهتم بالبيوغرافيا و الأسلوبية و البلاغة، ثم تحدث عن رأي “بلاشير” في تحول الشخصية الواقعية إلى روائية، و تساءل عن الأسباب التي جعلت الأجيال تجعل بعض الشخصيات تاريخية و بعضها أسطورية، و كيف تُصنع الروايات بطريقة توضح رؤية هذه الأجيال لها، و ذكر أن أجوبة هذه الأسئلة ستكون نتائجها المعرفية مفيدة للأنثروبولوجيين، ثم اختار قصة عروة بن حزام العذري و ابن عجلان النهدي و قارنها برواية تريستان و إيزوت اقتناعًا منه بأن روايات الحب العذري تستعيد أغراض الشعر العذري الأساسية، و وضع جدولاً يقارن بينهما، و وصل إلى نقاط تشابه منها الصراع بين الرغبة و العفة الذي يصل إلى الاستسلام للحب استسلامًا قد يصل إلى حد الجنون و ادعائه، و هو ما لا يجعل العفة تعبيرًا عن ورع ديني؛ لأن الله –سبحانه- في القرآن يمنّ على الإنسان بنعمة العقل، و يدعوه إلى استعماله، و ينبثق عن هذه العفة سؤال في مجتمع يمجد ذكورية الرجل، و هو: كيف يمكن التوفيق بين الاستسلام بالعفة و تأكيد ذكورية الرجل؟ يجيب بأن العذريين وجدوا أنفسهم أمام قوة جديدة هي المرأة، هذه القوة لا راد لها لأسباب كثيرة سيفصل فيها لاحقًا، و أن الاستسلام لها ليس غاية في حد ذاته، و إنما هو ذريعة للانتصار، و وسيلته في آن واحد، أيضًا المرأة في العالم العذري رفعت إلى مستوى المثالية، و يجب أن يكون حبيبها مثاليًا؛ لأنها وجهًا آخر لذاته، و مطالبها هي مطالبة، و كأن الاستسلام لها ليس إلا فعلاً لتجاوز الذات، و هو فعل بطولي مخالف لبطولة عنترة، و يرى أن التنافس الحربي بين القبائل قبل الإسلام قد تحول و أصبح بين المسلمين و غيرهم، أما العذريين فلم يكونوا مبالين بالتجنيد؛ لأن جهادهم في الحب كما يقول شاعرهم.

الفصل الثالث (113-126) بعنوان “عقيدة التوحيد و الحبيبة الوحيدة”، و يشير المؤلف في بدايته إلى الافتراض الذي سبق و عرضه سابقًا، و هو وجود علاقة تجانس بين عالم الإبداع و الواقع، و هو ما يخالف مفهوم الانعكاس، و يرى أن الشعر العذري في العصر الأموي يمثل إجابة العذريين بصفتهم مجموعة اجتماعية على أسئلة طرحتها بنية اجتماعية جديدة تشبعت إيديولوجيًا بتعاليم الإسلام، و يجب أن لا ينظر إلى هذه الإجابة على أنها مجرد تحويل مباشر للديني في العمل الشعري، و يذكر في هذا الخصوص أن اللغة سابقة على الذات التي تتكلمها، و ليس للإنسان أن يقول في نهاية الأمر إلا ما تسمح له اللغة بقوله، ثم أشار إلى الذين يحكمون على النص من خلال الواقع، و استشهد بكلام “ريفاتير” بهذا الخصوص، و مثل على ذلك بما ذهب إليه شكري فيصل من حكم على العذريين في كتابه “تطور الغزل بين الجاهلية و الإسلام”، و انتقد التفسير بالانعكاس المباشر بعد تطور العلوم الإنسانية اليوم، كما انتقد الذين لا يزالون ميالين إلى استخلاص علاقة سببية بين الإسلام الناشئ و الحب العذري، ثم تحدث عن ملاحظات المؤرخ مارّو الذي يرفض الفرضية الذي تبناها “دو راجمون” حول تأثير الفكر المانوي الجديد الذي حملته جماعة “الكاتار” على الحب العذري الغربي، و ذكر أنها ذات فائدة خاصة في بحثه حيث رفض “مارّو” التأثير و سكت عن الصلة بينهما ليترك مجالاً للتفكير في التجانس بين الاثنين، ثم بدأ المؤلف في توضيح التباعد بين المقاربة التي يقترحها و ما تواصل ترديده عبر العصور عن العذريين، و بدأ بالنظر في كيفية نقل اللغة القرآنية إلى الشعر من خلال تمثل الوحدانية عالمًا يجانس العالم العذري الذي دخله المؤمن بفعل الإسلام، مع التذكير أن النقل القرآني إلى الشعري لا يعتبر عن امتثال ديني بالضرورة، ثم تحدث عن التجانس بين عقيدة التوحيد في الإسلام و الحبيبة الوحيدة عند العذريين، فرأى أن عبادة الحبيبة الواحدة عند العذريين انبنت موازاة لعقيدة التوحيد في الإسلام، ثم توسع في الموازنة بين الإسلام و الحب العذري إلى كل ما يمكن الموازنة فيه.

الفصل الرابع (127-137) بعنوان “دلالة التجانس”، و يذكر في بدايته باستبعاده لمقولة الانعكاس المباشر في عمله، و يقدم خلاصة للفصل السابق، و هي الوصول إلى علاقة تجانس بين وحدانية الله كما عبر عنها القرآن و الحبيبة الواحدة في العالم الشعري العذري، و لكنه يؤكد أن علاقة التجانس هذه ليست سببية، و يطرح تساؤلاً عن إمكانية وجود تأثير إسلامي فعلي في هذا التجانس؟ للإجابة على هذا السؤال يعود للحديث عن استقلالية اللسان، و مرور العناصر الثقافية من عصر إلى عصر محافظة على الاستمرارية الذهنية، و عليه لا يستطيع العذريون محو المسار الدلالي لهذه العناصر في الذاكرة، و لكن ذلك لا يمعنهم من إيجاد امتدادات دلالية خاصة بهم غير الدلالات الموجودة في المجموعات الاجتماعية الأخرى التي تعيش ظروفًا مختلفة، ثم تحدث عن المسارات المرورية الممكنة بين العالم الواقعي من جهة و العالم الشعري من جهة أخرى، أي كعالمين متوازيين، و لكنه يؤكد رفضه للتأثير المؤدي إلى الانعكاس المباشر، و يدلل على رأيه بعدم وجود تطابق بين عناصر العالمين عبر المقارنة بينهما، فهو يرى أن الحبيبة الواحدة عند العذريين المجانسة للإله الواحد عند المسلمين لا تعني قوة إيمان العذري، و لا تنفي في الوقت ذاته احتمال وجود الإيمان في قلب العذري، بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى في توق العذريين الطعش إلى المطلق صعوبتين لهما طابع الكبت:

الأولى: الاستحالة الحقيقية في إحلال الحبيبة الخارقة للعادة محل الإله رغم الحب الذي يصل بصاحبه إلى الشرك و الوثنية مما ينتج عنه انشطار قد يؤدي إلى الاعتراض على قضاء الله و قدره، أو إلى ما يسمى شرعًا “عدم تمييز” أو “إكراها”، و هنا يستهوينا البحث مجددا عن إحساس تراجيدي بالمصير.

الثانية: عدم القدرة على إدراك الإله الواحد الصمد، حيث يرى المؤلف وجود تباعد ديني بين الحضريين الذين فسروا الرسالة و أولوها و نشروها و البدويين الذين وجدوا أنفسهم غير قادرين على استيعاب الرسالة، فكان على البيئة “الإيكولوجيا” أن تملي الوسيلة التي بها يتشكل “الوعي الممكن” و يكون للإيمان مكان فيه، فكل يرى يؤمن بالله بما يرى من آيات المشهد الذي يحيا فيه، و لذلك قال البدوي “البعرة تدل على البعير”، أما العذري فبدلاً من أن تكون المرأة حصيلة إيمان مكتسب تصبح وسيلة للتسامي الروحي، فهي طريق للعبور من الطبيعة إلى الثقافة، فيتوق العذري إلى المطلق في عالم عذري صحراؤه سراب، و يكون السبب الوحيد للموت هو العطش، و يكون التعويض الوحيد للعذري الذي لا يرتوي هو البكاء في نوع من المازوشية المتكررة، إذن يختزل العذري المرأة عبر التسامي بها تساميًا ليس مطلوبًا في ذاته، و إنما ليكون وسيطًا، ثم ختم الفصل برأي “جاك بيرك” الذي لاحظ أن اللسان مفرط في اتساعه بالنسبة إلى الإنسان و الأشياء، و أن الشعر يستمد قوته من عدم التكافؤ هذا، مما وضع لغة الشعر في حقل تداخل بين حركة تضخيم و اختزال، و كان هدف المؤلف من عرض رأي بيرك التمهيد لحديثه عن أفقية حركة الحبيبة “كون الحبيبة جنس قبل و بعد كل شيء” بعدما تحدث عن عموديتها “التسامي بها عن الواقع و العودة إليه” التي يرى أنها من اصطناع الرواة و النقاد.

الفصل الخامس (139-159) بعنوان “العفة: شعر أم حقيقة؟”، تحدث المؤلف في مقدمته عن تأكيد التباعد بين الصورة الإبداعية و الواقع من خلال النظر إلى الجمهور على أنه مرسل و ليس متلقٍ فقط، فتكون حصيلة الإبداع الأدبي ما يتم بناؤه انطلاقًا من مجموعة سمات مختارة من واقع الشاعر و واقع الجمهور في آن واحد، و هما واقعان يختزلهما الاختيار، و تعدل منها طريقة الإدراك و التعبير، و المؤلف لا يقصد بهذا التباعد أنه يتضمن إخفاء حقيقة مما يجنبه مسألة مزيفة على حد تعبيره، و هي مسألة صدق الشعراء، و إنما يريد به في دراسته التمييز بين عفتين، واحدة معيشة و الثانية رمزية، أي مقارنة الموقف الوسطي السائد لدى المسلمين، و الجانب الإيجابي من عفة العذريين، و قد تتبع المسافة التي تفصل بينهما، فرصد تناقضات لم يجد العذريون مهربًا منها كما يقول، و قد فعل ذلك على مرحلتين:

بدأ في الأولى بعرض الموقف الوسطي السائد لدى المسلمين بالحديث عن الجنس في أصل لغة العرب، ثم بالحديث عن الجنس على ألسنة الفقهاء و الأدباء، مرورًا بما ذكر في الإنجيل عن ذكورية سليمان عليه السلام، و كيف تعقلن الأساطير حول الرغبة الجنسية، و ما هو أبعد من العقلنة، و هو تقديس للقوة الذكورية اعتمادًا على سنة محمد صلى الله عليه و سلم أو تأويلاً لها، و حتى أصبحت القوة الذكورية هاجسًا بالنظر في كمية و نوعية النصوص التي تتحدث عنها في الآخرة, ثم انتقل إلى تحديد عذرية العذريين، فذكر أن تعريفها بالورع موجود في نصوص الرواة و المعلقين ذووي المنزع الديني أكثر مما هو موجود لدى الشعراء أنفسهم، بينما يرى المؤلف أن هذا الورع الناتج من تناقضات العذريين ليس إلا وجهًا ثانويًا، فذكر أن رفض الزواج كان من أجل التسامي بالحبيبة، و ليس رفضًا للرغبة الجنسية فيها؛ لأن تلك الرغبة باقية دومًا، و هناك تعارض مستمر بين الوصال و الفراق، و يرى المؤلف أن الأولى أن نعرف حدود الوصال، حيث كل شيء مباح عند العذريين باستثناء الجماع، فليس هناك معنى للعذري إن لم يحافظ على عذريته، إن معارضة العذرين شعريًا للإباحيين و اختلاف عذريتهم عن عذرية المسلمين الوسطية هو اختلاف حول المعنى النفسي و الاجتماعي و الديني المعطى للعملية العذرية، رغم أن وراء ذلك “استراتيجية” سيتحدث عنها المؤلف في فصل لاحق، و الخلاصة التي ختم بها المؤلف هذه المرحلة أن الجوانب الإيجابية من عفة العذريين لا تعني الورع الديني؛ لأن الورع الديني لا ينحصر ببساطة في الجماع.

و في بداية المرحلة الثانية تحدث عن علاقة العفة بالجمال، فذكر أن العفة من إرادة الرجل، و هي قائمة في الجمال؛ لأن الجمال عفيف في حد ذاته، و العفة في نهاية الأمر متأتية من جمع الحبيبة بين الجاذبية و التمنع، و رغم رفض العذري لممارسة الجنس مع حبيبته إلا أن رغبته الجنسية فيها حاضرة، بل لا تقتصر على النصف العلوي، و إنما تنحدر إلى نقطة ما تحوم عليها نظرتهم، و هذا النزول يؤدي إلى التمييز بين غياب الرغبة الجنسية، و استحالة إشباعها، و هو ما يسعى العذريون و “وعيهم الممكن” إلى المحافظة عليه، و هنا مكمن تماسك عالم العذريين، بالاستحالة و عدم الإدراك، إما ببعد الحبيبة أو بخلها ..إلخ العقبات، و يتعدد واقعًا و خيالاً. ثم يعود إلى السؤال في عنوان الفصل فيصفه بالسذاجة، سذاجة لا يثبتها شعر العذريين فقط، و إنما شعر الإباحيين أيضا، و من هنا تحدث عن عمر بن أبي ربيعة بصفته نموذجًا مناقضًا للعذريين بالإجماع، فحلل بيئته الاجتماعية و الاقتصادية من مكة إلى المدينة، و حياته الشخصية، و ذكر أنه لم يخل من انشطار في النفس، و تحدث عن مفارقته للعذريين، و عن تساؤل جمهوره عن إباحيته، هل هي حقيقة أم شعر، و بيّن تناقض الروايات بهذا الخصوص، و ذكر أن لهذا التساؤل بواعث قديمة، رغم أن العرب يفضلون الشعر الذي يتحدى الواقع و يتجاوزه، و يرى أن تحليل قصيدة عمر بن أبي ربيعة في “نعم” لا يكون إلا على مستوى العلاقات الرمزية، فعلاقة “الرجل/المرأة” ليست مجرد انعكاس لإباحية جنسية حقيقة بقدر ما هي علاقة مركبة تعني أن الوصول السهل إلى أوساط النساء في مجتمعه مؤشر على مكانة اجتماعية محددة يطمح إليها، إذن فالمرأة علامة متغيرة، فهي عند العذريين وسيط عملي بين المعيش و ما يبقى إشكالي العيش، و عند عمر أصبحت الفضاء الذي تُنقل إليه صيرورة اندماج اجتماعي نجاح، ثم عاد ليختم الحديث عن عفة العذريين، و قدم خلاصة فيها، و حاول ربطها بظاهرة انثربولوجية تتعلق بتنوع السلوكات الجنسية عند الإنسان، فبدأ بمقدمة في هذا الموضوع، ثم تحدث عن دراسة “مارغريت ميد” التي لم تتوصل إلى إثبات علمي عن وجود مزاج جنسي فطري، و لم ير المؤلف أساسًا جديًا للبحث عن علاقة العذريين بالمثليين، حيث يرى أن تطور المثلية عند العرب بدأ مع أول جيش نظامي أنشأه أبو مسلم الخرساني للقضاء على الدولة الأموية استبعدت فيه النساء لأول مرة حسب بعض المصادر، و ختم الفصل بالإشارة إلى غياب النساء في نقل نصوص العذريين، و غياب حديث النساء عن النساء، و غياب الشعر النسوي العذري باستثناء ليلى الأخيلية التي رثت حبيبها توبة رثاءً تقليديًا، و يتساءل عن القصائد التي عبرت فيها عن عطشها العذري، هل حذفتها رقابة المجتمع الذكوري تمسكًا بصمت النساء؟.

أما الباب الرابع و هو بعنوان “المجموعة العذرية” فقد قسمه أربعة فصول:

الفصل الأول (163-175) بعنوان “العصر”، و قد لخص المؤلف في بدايته كل ما سبق تناوله في الأبواب السابقة في ثلاث مراحل متكاملة على حد تعبيره، ثم ذكر أنها تمثل إحدى مرحلتين بالرجوع إلى تعريف العمل الأدبي الذي اقترحه، و هي مرحلة الفهم، و بقيت مرحلة التفسير، و يقصد بالفهم مرحلة التحليل الداخلي للنصوص لفهم العالم الشعري، أما التفسير فهو الرجوع إلى المجموعة الاجتماعية كما هي في الواقع التاريخي، لمعرفة الدوافع التي جعلتها تبني هذا العالم الشعري تحديدًا دون غيره، و هو ما يقصده غولدمان بالفهم و التفسير في النقد الاجتماعي، ثم تحدث عن كتاب غولدمان “الإله الخفي” و ذكر خلاصته، و انطلق منه للحديث عن الصعوبات التي بدأت تواجهه في هذا الباب من دراسته، و أهمها عدم وجود معلومات تاريخية كافية تحدد نمط حياة المجموعة العذرية، و ذكر أن تاريخ العالم العربي و الإسلامي يعاني من ثغرة أكبر و أعم في المجال الاقتصادي، و هو مجال حيوي في تاريخ البشرية جميعه، و قد توسع في الحديث عن هذه النقطة في الحاشية، ثم تحدث عن طريقته في إعادة بناء المجموعة العذرية بدءًا بوضعها في سياق تاريخي عام، هو السياق الثقافي الأموي، ثم الاقتراب منها زمانًا و مكانًا في حدود ما تسمح به المعلومات القليلة، و أوضح أن هدفه ليس ملء الفراغات في المعلومات، و إنما إيجاد التماسك بينها، ثم انتقد التحقيب السياسي للعصور الأدبية، و بين عيوبه من وجه نظر سوسيولوجية، و امتدح تحقيب بلاشير الذي اعتمده باحثون آخرون، و العصر الأموي بحسبه هو الممتد بين عامي 50-170هجرية، و هو ما اعتمده المؤلف و لكن من دون تردد في تجاوز حدوده بحثًا عن تفسير ممكن كما يقول، ثم اكتفى بإبراز بعض الخاصيات العامة المهيمنة في العصر الثقافي الأموي لمعرفة بعض الأسس الاجتماعية و الاقتصادية للعالم العذري، و ترك الحديث عن تطور الإحساس الديني؛ لأن الالحاح في ذكره غير مفيد؛ و لأنه ظاهرة مفروغ منها و تكاثرت دراساتها، فتحدث عن الأحزاب السياسية التي كان كل واحد منها يبحث عن شرعية موقفه باسم الدين، و تحدث عن تطور تداول السلطة المفاجئ من رئيس القبيلة إلى الرسول ثم الخليفة و الوالي، ذلك التطور الذي ترك تأثيرا على السلوك العربي لا يقل عن تأثير الدين نفسه و إن كان مختلفًا، و تحدث عن صعوبة التوازن بين الخصوصية القبلية و الدولة الإسلامية، و شوق العودة إلى نظام التنافس القديم الذي حال دونه الانصهار الديني و السياسي الكامل، و أن جزءًا من سكان البادية حافظ على عداء قديم للسلطة التي تحولت مع الأمويين إلى ملكية مطلقة، و أنهم تمسكوا بإثبات ذواتهم اجتماعيا و قيميًا في بيئتهم الخاصة، و واجهوا قيم الحضريين، و لم تكن لهم طموحات في الارتقاء الاجتماعي و الاقتصادي، و يرى أن أهم خصائص العصر الأموي إذا ما قورن بعصور لاحقة هي عروبته، و يقصد بها هيمنة العرب إثنيًا و لسانًا و قيمًا، ثم راح يتحدث عن تجليات هذه العروبة عند الأمويين سياسيًا و اقتصاديًا و بيئيًا، و يقارن عصر العباسيين بعصر الأمويين، ثم تحدث سمة أموية أخيرة و هي ظهور المدن و ما تبعه من دخول أفواج كبيرة من العرب إلى المناطق الحضرية، فقد كان ذلك منعطفًا حاسمًا في سيرورة الثقافة و في نمط حياة العرب و سلوكهم، و تأثر القصيدة بالمشهد المعماري الجديد، ثم تساءل عن مدى تكيف البدو فيها، و أشار إلى أن إجابة هذا التساؤل تحتاج إلى دراسة تاريخية للحياة اليومية، و لا نملك إلا أمثلة سيئة في هذا الخصوص من نوع كتاب مظاهري “حياة المسلمين اليومية في القرون الوسطى”، و ينتقده المؤلف على عدم حرصه على تصنيف أنماط الحياة اليومية تبعًا لزمانها و مكانها حيث يغطي الكتاب ثلاثة قرون، و يشير إلى أن المؤلفات القديمة حول بعض المدن الإسلامية هي المراجع الأساسية، و الوحيدة في بعض الأحيان، ثم تعمق المؤلف فتحدث عن العثور الصعب عن معلومات حول الأسرة و حول الدور الاجتماعي و الاقتصادي للمرأة، و خضوع الأسرة للنظام الأمومي أو الأبوي، و ختم الفصل بأن انعدام المعلومات الكافية و تداخل الأزمنة و الأمكنة ليس مبررًا لقبول القول بتجانس المجتمع تجانسًا يلغي التمايز أو يلغي أهميته في التحليل و التفسير.

الفصل الثاني (177-191) بعنوان “بنو عذرة، عينة”، و يتحدث المؤلف في بدايته عن فشل أي محاولة للبحث عن أب للعذريين؛ لأن المصادر العربية لا تسمح بتدقيق من هذا النوع؛ و لأن النص العربي كغيره من النصوص “يتم إنتاجه ضمن حركة معقدة من توكيد نص آخر و نفيه توكيدًا و نفيًا متزامنين” كما تقول كريستيفا، و ربما بميل أكثر كما يرى المؤلف، فالنصوص تتحاور و تتداخل و تتكامل في الوقت الذي تنبني فيه و تتغير، الشيء الوحيد الذي يمكن توكيده هو أن الحب العذري أصبح غرضًا مركزيًا و معهودًا في العصر الأموي لدى مجموعة من الشعراء العذريين التي تدل المصادر على أنهم توفوا فيه باستثناء شاعرين توفيا قبل ذلك، ثم تحدث عن قلة اهتمام تاريخ الأدب العربي بالشعر العذري مقارنة بالشعر الإباحي و السياسي، إلا أنه لا يتردد في ربط الذهنية العذرية بالسياق الأموي، و ربما حسم ذلك بعض مؤلفيه، ثم عاد للحديث عن انتحال الشعر العذري، و فسر سبب الانتحال بفرضية هي أن بعض جنود جيش أبي مسلم الخرساني الذي سبقت الإشارة إليه قد وجودوا في تمثل “حب عفيف” أحد الحلول التعويضية لتحاشي العلاقات المثلية التي أوجدت ظروف الجيش أوضاعها، إلا أن ذلك لا يشكك أبدًا في وجود بني عذرة التاريخي بغض النظر عن الروايات و الأساطير التي تعد من مصادر إثراء الحب العذري، و بدونها لا ينبني عالمه، ثم تحدث عن الظرفيات الجديدة التي عاشتها مجموعة الشعراء العذريين أنفسهم، و عدائهم لها أو لا مبالاتهم بها، و طرح سؤالاً: هل بنو عذرة بدو على وجه الدقة؟ و قبل أن يجيب وضح صعوبة الإجابة بسببين هما: عمومية و تناقض المعلومات التاريخية، و تلون مفهوم البداوة، ثم تحدث عن موقع بني عذرة الجغرافي، و هو تحديد يواجه صعوبتين أيضا هما: كثرة تنقل المجموعات البدوية، و عدم دقة و ثبوت أنساب هذه المجموعات ثبوتًا قطعيًا، و ضرب أمثلة على ذلك، ثم حاول رسم مسار العذريين ابتداء بأولى المراحل، و هي هجرات القبائل المتتالية من الجنوب للشمال، مما يعني أن الحب العذري تطور في مرحلة رجوع إلى البداوة، و حتى استقرت قبيلة بني عذرة في وادي القرى، و سواء كانت من أصول جنوبية أو لا فقد ارتبط هذا الحب باسمها بقطع النظر عما إذا كان ولد فيها أو نقل إليها، و كان ذلك في مرحلة أدبية مفصلية ظهر فيها شعر حضري صريح الإباحية، ثم وصف وادي القرى جغرافيًا، و تحدث عن نمط بني عذره الاقتصادي، و مما ذكره بهذا الخصوص أن تنقلات بني عذرة قليلة و قصيرة، و اتصالهم بغيرهم كان أقل وزنًا و تأثيرًا من اتصالات البدو الرحل، و أن ما قاله شعراؤهم في الحروب بسبب قلة حروبهم، و قلتها بسبب عزلتهم الجغرافية، و أن هناك مؤشرات على غياب أي تعلق بالحياة التجارية و الفلاحية في شعرهم، بل هناك إيحاءات متكررة بالانتماء إلى نمط رعوي، و إن لم يكن فيه ما في الشعر البدوي من افتخار بالحياة الرعوية، و استنتج من هذا كله أن هناك صلة وثيقة بين اللساني و الأنثربولوجي، و أن تعبير العذريين عن هامشيتهم الثقافية تناسبها هامشية اجتماعية و اقتصادية، فهم خارج الصنفين الموجودين في عصرهم، و هما حضريو الحجاز و البدو الرحل، و يرى المؤلف أن الإسلام دعم هذه الهامشية فازدادت بعد مجيئه، كما يرى أن تصور الحب العذري نشأ و تطور في سياق من الهامشية الاقتصادية و الاجتماعية و اللامبالاة الثقافية، و عاد إلى أصول الرواية العذرية التي لم يجد لها جوابًا عندما طرحها سابقًا ليقول إن الجواب أصبح واضحًا الآن، فقد عاش مزيج القبائل الجنوبية التي نزحت إلى الشمال و نشأ فيه بعض الشعراء العذريين أوضاعًا هامشية شبيه بهامشية بني عذرة حيث حولتها الهجرة من الأوضاع المستقرة إلى أوضاع البدو الرحل الذين جذبتهم مركزية مكة دون القدرة على دخولها، و أغلب الاحتمال أن الرواية العذرية انتقلت من هذه القبائل إلى جماعات قليلة الرضا عن أوضاعها ، و منها بنو عذرة؛ لأن الرواية أو الأسطورة لا تتجه إلا نحو من لها عندهم وظيفة ذات دلالة، و ليس صدفة، و قد تماهت مع بني عذرة مجموعات أخرى و اشتركت معها في بناء عالم مشترك يعبر عن رؤية للعالم مشتركة، و انتقد بسيط “بلاشير” لوظيفة الرواية المعقدة حيث حصرها في التنافس القبلي فيما يخص مجنون ليلى، بينما يرى المؤلف أنها مطالبة جماعية بنمط مشترك من البطولة، و بالتالي بنوع مشترك من “الوعي”، ثم عاد إلى التجانس البنيوي بين العالم العذري و عالم الكورتوا الذي سبق إبرازه، و هما عالمان متباعدان زمانًا و مكانًا، و رأى وجوب إعادة الموضوع إلى وظيفته، فرغم اعتقاد المؤلف أن لكل شعر حقيقي “شعرية” لها بعد إنساني كوني، و أن ما سماه مالينوفسكي “متتالية حيوية دائمة حاضرة في كل ثقافة” إلا أن هذه “المتتاليات” محددة و معرفة و معدلة في كل ثقافة بحسب الوظيفة الموكولة إليها، و أن العلامة الثقافية لا تحيل دائمًا على المدلول ذاته، و إذا ما قارنا ظروف الكورتيزيا بظروف العذريين وجدناها مختلفة تمامًا حيث لا يوجد فيها ما يحفز على الاحتجاج الجماعي، و أن الحب العذري لم يكن إلا إنتاج مجموعة محرومة و محتجة على طريقتها و عبر لا مبالاتها، و يؤكد ذلك المؤلف من خلال حديثه الذي ختم به الفصل عن حرمان البطل العذري من حبيبته لفقر شديد أو نسبي، و عن هامشيته بسبب رفضه لنصائح أهله و مطاردة أهل حبيبته له و تهديد السلطة له بإهدار دمه على رغم عفته و جنونه أحيانًا، هذا الحرمان يتضمن دلالة كبيرة لأنه يربط رمزيًا بين حرمانين: جنسي و اقتصادي.

الفصل الثالث (193-207) بعنوان “استراتيجيا جنسية”، يذكر المؤلف في بداية الفصل أنه من الممكن محاولة تفسير الدور المسند إلى الشخصية العذرية من جهة الترابط الرمزي بين الوضع الاجتماعي و الاقتصادي و الموقف الخاص من الجنسانية، ثم يلخص ما سبق و ذكره عن البطل العذري و رفضه لعملية الجماع، و يطرح تساؤلاً عن دلالة هذا الامتناع المحدد و المموضع جنسيًا؟ ثم تحدث عن “الجنسانية و الصراع الطبقي”، و مثل على ذلك بمجموعة “الفريكس”، و لكنه فرق بين سياق العذريين و سياق هؤلاء اليساريين، و لكنه رأى في المقاربة فائدة؛ لأنه لا يشك في تأثير الوضع الاجتماعي و الاقتصادي على السلوك الجنسي و العكس، و خصوصًا تأثير الرؤية الذكورية على هذا الوضع، ثم تحدث عن عودة رايموت رايخ إلى القبائل الغينية التي دراستها مارغريت ميد، و ذكر رأيه في إمكانية إثبات التطابق بين اقتصادها و جنسانيتها، و لكن المؤلف لا يرى إمكانية منهجية مقبولة لوصف العلاقة بين نظام بني عذرة الاقتصادي و استغلالهم النصف الأعلى من المرأة بطريقة رايموت رايخ مع القبائل الغنية، و في المقابل فإنه يرى إمكانية متيسرة للبحث في “الاستراتيجيا الجنسية” التي يبنيها العالم الشعري العذري، و يعود إلى فرضية التجانس بين علاقة الرجل و المرأة و علاقة الرجل بوضع اجتماعي، و بيّن أن سبب هذه العودة ليس كون المجتمع ذكوريًا؛ لأن ذلك ليس خاصًا بالعذريين، و لكن السبب هو أن الذكر العذري الذي لا تُشبع رغبته الجنسية يرى في المرأة التي لا تدرك رمزًا للتملك، و إذا اقترب منها وجدها بلا جنس، بينما يستغلها بحسب هواه عمر ابن أبي ربيعة، و يرى أن التزامن بين ظهور النمط العذري البدوي و النمط الإباحي الحضري في العصر الأموي يشير إلى مرحلة اتسعت فيها المسافات الاجتماعية، و خاصة في مجال المِلْكية، ثم تحدث عن الملكية عند القبائل في الجاهلية، و طبقات المجتمع في الحجاز، و وعود الأمة الموسعة التي سمحت لكل مجموعة اجتماعية أن تصوغ مطالبها انطلاقًا من مقارنة أوضاعها بأوضاع مجموعات أخرى، و خاصة تلك المجموعات التي مرت بمرحلة انغلاق حول ذاتها، ثم شعرت بأنها ضحية لا مساواة اجتماعية متزايدة، و على رأس تلك المجموعات البدو، ثم تحدث على توسع القرآن الكريم و السنة في مبدأ العدل الاجتماعي، و نظرته إلى مفهوم الملكية بالنسبة للفرد و الجماعة و الأمة، و محاولة بعض المفكرين العرب المتحمسين للاشتراكية العثور على مؤشرات لتقليص الملكية إلى حدها الأدنى حيث يرى المؤلف أنه لا يصعب العثور في القرآن و السنة عما يعارض استغلال الإنسان للإنسان، و ضرب مثالاً على ذلك بمفهوم الأجر العادل في الإسلام، ثم تحدث عن نظرة المسلمين إلى المرحلة الأولى مرحلة الخلفاء الراشدين التي وسمت ذهن المسلمين رغم قصرها؛ لأنها المثل القراني القريب من طموحات الجماعة الذي تم اعتماده إلى حد ما، و مع ذلك فلم تخل من احتجاجات، ثم عجز منظمو الإمبراطورية العربية الأموية عن تلبية الأمل الواسع الذي بعثه في الناس من سبقهم لعدة أسباب ذكرها المؤلف، ثم ذكر أهم الأحداث السياسية في العصر الأموي و الاضطرابات التي كان المحتجون فيها يرون احتجاجهم عادلاً دافعًا للظلم، ثم تحدث عن عيب المجتمع الأموي، و هو الارتباط الشديد بين تطور النظام الاقتصادي و التطور الحضري الذي زاد من عدد البؤساء في المدن، و ظهور نوع من البروليتاريا، و تراكم رؤوس الأموال، و اختلال التبادل بين المدن و الأرياف التي تمد المدن بالضرائب و الأتاوى بعد أن كانت تمارس الإنتاج المحلي، و شرح هذه النقطة بالتفصيل حتى ذكر أن العباسيون تحملوا تبعات هذا الوضع، و ضرب مثالاً على ذلك بثورة الزنج، ثم ذكر آراء مكسيم رودنسون في إسلام القرون الوسطى، و علق عليه، ثم تحدث عن موازاة تطور الحب العذري و الحب الإباحي في هذه البنية الاجتماعية و الاقتصادية الجديدة، و ذكر أن هذين الحبين يحملان استراتيجيتين تحولت المرأة فيهما إلى مرادف عاطفي لرأس المال الجديد، فحين يستثمر عمر بن أبي ربيعة المرأة الحضرية ذات الوجاهة و المال في غيرة نسوية منتجة، و ينتج عن نجاح هذا الاستثمار الذي يُنظر إليه على أنه صعود ارستقراطي شعور بالاكتفاء ليس من طبيعته رفض الواقع القائم، أما حب العذريين فهو حب استلاب في ما يقارب المعنى الذي يعطيه ماركس لهذه الكلمة، مردود العمل الذي يتحمل البطل كافة أتعابه لا يعود إليه، فالبطل ذات تواجه موضوعها، بل قد تصبح ذاته غريبة عنه، و يؤكد هذه الفكرة بأمثلة شعرية من الطرفين، و يفترض من ذكر العذريين الظلم كثيرًا أن الاستلاب لا يعطل ما لهم من طموحات و مطالب نهائيًا، و أن صورة الحبيبة التي يعود جنسها و إنتاجيتها ظلمًا إلى غني تستحضر صيرورة التملك في العصر الأموي الذي سبق و تحدث عنه المؤلف، ثم ذكر رأي رولان بارت في النص السادي، و تحدث علاقة التقسيم الطبقي بالمجون في مجتمع لويس الخامس عشر، و رأى أن من المجازفة الحديث عن صراع طبقات بخصوص العذريين، ثم أعاد ما سبق ذكره في هذا الفصل و لخصه، و أشار إلى ميول كثير عزة السياسي، و ربطه بالشعور بالظلم و الاستلاب و الاحتجاج، كما أشار إلى تغير الدلالات بتغير السياقات الاجتماعية و الاقتصادية، و استشهد بكلام “ساد” في هذا الخصوص، و ختم الفصل بالحديث عن إهمال المؤرخين لما لا يتحرك حيث لم يسجلوا الهامشي و اللامبالي، و قدرة الأمويين على إخضاع الثائرين و عجزهم عن اللامبالين.

الفصل الرابع (209-225) بعنوان “فرضية الهامشية اللغوية”، و يتحدث في بدايته عن الفائدة التي يمكن الحصول عليها مما استجد من المقاربات اللسانية في الدراسة الأسلوبية للشعر العذري، و يقصد بهذه الفائدة التحديد الدقيق للوظيفة الاجتماعية لهذه الشعرية، و لكنه يتطلب جهدًا و يتجاوز حدود هذا الفصل الذي يفترض قابلية إثبات الهامشية اللغوية للعذريين، و علاقتها بالهامشية الاجتماعية و الاقتصادية التي توصلت إليها هذا البحث، ثم تحدث عن الأساس النظري لهذه الفرضية عند “لوكاتش” و “قولدمان” و آخرين، ثم ذكر أحادية الأطروحة التي ترى أن اللغة تخلق العالم، و الأطروحة المعاكسة لها، و يتبنى المؤلف القول بالتفاعل المتبادل أو التماثل الذي يبني علاقة وثيقة بين البنى اللسانية و بنى المجموعات الاجتماعية، ثم تحدث عن الاختلافات اللغوية الناتجة عن تقسيم المجتمع إلى طبقات، و ذكر رأي جاكبسون في فرضية اللسان أحادي الشكل، و ميل اللسانيين إلى التأويل النفسي، و تعلق الأسلوبية بالفردانية و الشخصية في الشعر، و تعدي التحليل من الجملة إلى الفقرة و النص الذي كشف عن علاقات لافتة بين الشكل و المضمون أو بين المعنى و الصوت، ثم تحدث عن مكانة الشعرية في النقد الأدبي العربي التي ساهم فيها نقاد يوصفون بأنهم “شكلانيون”، و علاقة النمط الشكلي بتنميط الزمان و المكان، ثم تحدث عن القصيدة الأموية المشدودة إلى ظاهرتين هما: تواتر البحور التقليدية، و شهرة بعض الشعراء الذين يمثلون تركيبة أو مزجًا خاصة بين الأغراض الشعرية، ثم تحدث عن التحولات الحجازية في البحور التقليدية، و موقع العذريين الشعري منها، و لتيسير تحديد موقعهم ميز المؤلف بين تعارضين كبيرين هما: التحضر و البداوة، و الالتزام السياسي و اللامبالاة السياسية، و ذكر أن ما يميز موقع العذريين هما معطيان أسلوبيان بارزان و متكاملان: الأول استعمال بحور شعرية لها تواتر وسطي بين الحضر و البدو، و “إنتاجية” بلاغية منخفضة نسبيًا، و لعرض المعطى الأول و التدليل عليه أعد المؤلف إحصائية في تواتر استعمال البحور الشعرية التقليدية بين ثلاثة شعراء هم: ابن قيس الرقيات و عمر بن أبي ربيعة ممثلان للحضر، و ذو الرمة ممثلاً للبدو، و جميل بثينة ممثلاً للعذريين، ثم حلل نتائج هذه الإحصائية، و لعرض المعطى الثاني و التدليل عليه أعد إحصائية عن الاستشهاد بالشعر الحضري و البدوي و العذري في ثلاثة كتب نقدية بلاغية هي: الشعر و الشعراء لابن قتيبة، و إعجاز القرآن للباقلاني، و زهر الآداب للحصري القيرواني، و اختار الأعشى و عمر بن أبي ربيعة و العرجي ممثلين للحضرين، و ذا الرمة و الراعي ممثلين للبدو، و حلل نتائج هذه الإحصائية، و ربطها المعطى الثاني بالأول، ثم اختار عينة أخرى تأكيدًا لنتائج العينة الأولى معتمدًا على الكتب الثلاثة ذاتها، و العينة هي: شعراء البلاط “جرير و الفردق و الأخطل”، و الشعراء السريون ذوو المنزع الشيعي أو الخارجي “الأعشى و ابن حطان و الكميت”، و الشعراء العذريون، و خلص من كل ذلك إلى التحقق من صحة الافتراضية التي افترضها و إثباتها بالأدلة، و هي وجود ترابط بين الهامشية الاجتماعية و الاقتصادية لبني عذرة و الجمالية التي بنوها و صنفوا على ساسها، حيث تحولت لا مبالاتهم السياسية إلى شعريتهم، و تحولت هامشيتهم الاجتماعية و الاقتصادية إلى هامشية بلاغية، ثم تحدث عن مكانة البلاغة الرومانية، و مكانة البلاغة عند العرب في الجاهلية و الإسلام و العصر الأموي، و ذكر أن الشعر بضاعة العرب، و أن الحكم في هذه البضاعة و مراقبتها و تسويقها للقرشيين على ما يبدو، فقد كانت للارستقراطية المكية سلطة الاقتصاد و سلطة اللغة في آن واحد، و ذكر استثمار الخلفاء و الولاة الأمويون في البلاغة، ثم تحدث عن التلاقي بين السياسي و الحضري، و السياسي و البدوي، ثم لخص ما فعله في هذا الفصل، و هو الرجوع إلى خطاب مباشر أو من الدرجة الثانية أو إلى الكلام على الكلام لإثبات هامشية شعرية العذريين بحسب تصنيف القدامى، و يتساءل هل هي كذلك فعلاً؟ و يذكر أن ذلك غير مهم من وجهة سوسيولوجية، و ختم الفصل بالحديث عن الدوال العذرية التي لا تحيل على مدلول واحد دائمًا، و يذكر رأي “هنري لوفافر” في سقوط المرجعية عند التكعيبيين في الفن التشكيلي، و قال عن العذريين إنهم كانوا تكعيبيين بما فيه الكفاية.

الخاتمة (227-231)، و ذكر فيها المؤلف أن حرصه في عمله على إدراج العمل الشعري في نسق التصورات و السلوكات ساعد على ملامسة مسألة الجدلية بين الثابت و المتغير، و بين العام و الخاص، و ذكر أن عمله بيّن أن استقلالية الدلالة في اللسان العربي –وكذلك الشكل و المعنى في القصيدة القديمة عندما تسعى إلى احترام هذه الاستقلالية باستحضار العلاقة الدلالية بين المذكر و المؤنث فعلاً- لم تمنع في الجملة من استكشاف صيرورة تصور شعري ذات علاقة بتطور إسلامي جديد للعالم، و أن هذا الشعر كان تعبيرًا عن وعي خاص بمجموعة ذات وضع خاص، و أنه تحاشى في سعيه إلى إدراك دلالات بعض العلامات أن يفضي الاهتمام بالكلية إلى التعميم، بل اتجه إلى إيجاد نوع من تيبولوجيا العلامات، فوصل إلى أن حبيبة الشاعر علامة متغيرة تبعًا للعصور، بل في المجتمع الواحد، و في أوضاع المجموعات الاجتماعية، فليس لهذه “الحبيبة/العلامة” الوظيفة ذاتها عند العذريين و عند الإباحيين، و أنه ابتعد عن المدلول المرتبط بدال القاموسي، بل يمكن أن تجرد و تستغل و تستثمر، و أنه لم يسع إلى نتيجة إيجابية و نهائية، بل كان عمله إشكاليًا و غير نهائي، و انتقد مؤرخي الأدب التقليديين الذين يسعون إلى الدلالات النهائية، و يغلقون باب الاجتهاد، و تحدث عن أثر ذلك على النظرة إلى الشعر العذري عبر القرون، و هو إلغاء المفارقات الداخلية الواضحة في العالم العذري، فالحبيبة هي مثال أعلى و وسيط و مجرد جنس، و هي موضوع رغبة تلبى بالإعراض عنها، فهي علامة ذات أوجه مختلفة و ملتبسة، و ذكر أن ظاهرة الهامشية الاجتماعية و الاقتصادية التي عرضها في بحثه تحتاج إلى معطيات تاريخية ثابتة تزيدها وضوحًا، و انتقد تاريخ العالم العربي و الإسلامي الذي يهمل الهامشي و يهتم بالمركزي، و ذكر أن في عالمنا العربي اليوم -كما في غيره- “لامبالاة الهامشي”، و أنها لم تفحص، و ذكر مثالاً على ذلك حديث عن حنين عرب اليوم إلى الماضي يختلف باختلاف الطبقات و الشرائح الاجتماعية، و عرض جوانب من الحنين و جوانب من التجديد أيضًا، و تساءل عن شعور الطبقات و الشرائح الاجتماعية بالتغيير؟ و تحدث عن الاتصال معها، و ذكر أسباب هذا الحنين، و ختم بالحديث عن سوسيولوجيا اللامبالاة.

الثبت التعريفي (233-237) شرح فيه المؤلف ستة مصطلحات ذكرها في دراسته هي : الحب (Amour)، ذكورية (Virilite)، عشق (Amour-passion)، غزل (Poesie amoureuse)، كورتيزيا (Cortezia)، لسان (Langue).

ثبت المصطلحات (259-247) سرد فيه المؤلف 159 مصطلحًا ذكرها في دراسته و مقابلها باللغة الفرنسية دون شرح.

الفهرس (261-270) سرد فيه المؤلف أسماء الأعلام و الأماكن و بعض المصطلحات حسب الترتيب الألفبائي، و خلط فيه بين جلال الرومي الذي ذكره ص 143 و أبي الحسن علي ابن الرومي الذي ذكرها هنا ص261.

تعليقي على الكتاب:

للكتاب قيمة علمية ثمينة في النقد الأدبي العربي؛ لأنه يعد أول محاولة إجرائية للمنهج الاجتماعي التكويني على الشعر العربي؛ و لأن من قام بهذه المحاولة عالم اجتماع عربي درس على يد لوسيان قولدمان الذي ترك بصمة واضحة في النقد الاجتماعي، و لهذه الطبعة من المنظمة العربية للترجمة قيمة خاصة؛ لأنها من ترجمة المؤلف.

في الكتاب مقدمات نظرية تأسيسية في المنهج الاجتماعي التكويني، و توضيح لبعض أدوات و مصطلحات المنهج الاجتماعي التكويني، و نقد لمفهوم الانعكاس الذي سارت عليه كثير من الدراسات الأدبية العربية، و مقاربة سيوسيولوجية ذات نتائج مفاجئة غيرت نظرتي للشعر العذري و الإباحي، و أتوقع أن يغير نظرتكم إليه أيضًا.

و قد تمنيت لو شرح المؤلف بعض المصطلحات التي قد لا يعرفها غير المتخصص في علم الاجتماع، مثل كلمة “إثنية” التي وردت أكثر من مرة، أيضًا تمنيت لو أكثر من الاستشهاد بالشعر العذري على ما يقول، و لو حرص أكثر على توثيق بعض المعلومات التاريخية و النصوص، و خاصة الأحاديث النبوية التي وثق أحدها من مجلة حديثة كما في ص197.

بواسطة صالح الهزاع

مدون سعودي

4 تعليقات على “سوسيولوجيا الغزل العربي، الشعر العذري نموذجا”

أهلا بالحبيب صالح :
لا أستطيع أن احكم على نفعية الكتاب ولكن يبدو من خلال تقديمك له بأنه ماتع ويستحق القراءة ، ولكني لا أؤمن بكثير أبحاث المغاربة ( التوانسة، والجزائريين، والمغربيين ) لأنهم دأبوا إلى التهسف في تناول الأدب ولي أعناق النصوص لتتوافق وتتلاءم مع مناهج النقد الغربية ، فأصبح كبار الأدباء هناك مفتونين بالمناهج فكانت نتائج دراساتهم خاطئة ومضحكة لأن التركيز قد انصب على المنهج على حساب الحقائق .
من نتائجم المضحكة أن رحلات الصيد في القصيد القديم هو دلالة على رحلة الإنسان طرفاها الموت والحياة والقائد فيها هو الشاعر ، ومنها أن أصل كلمة ( متلاطم ) هو مطلاطم ؛ لتلائم موج البحر الوارد في القصيدة ، ناهيك عن نتائج المنهج السيميائي وكأنه يخاطب طفل صغير لا يعرف شيئًا عن الحياة .

الإحْتــّــرَآم
.

خُطْوَة تَسْبقُ آلحُب بـ ِآلآف آلأمْيَآل

لك كل الود …

دمت بخير ..

أكتب تعليقك

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: