تمهيد :
عرف النقد العربي الحديث مجموعة من النظريات والمناهج النقدية نتيجة الانفتاح على الثقافة الغربية، اطلاعًا وترجمةً، كالمنهج النفسي الذي يحلل النص الأدبي من الوجهة الشعورية واللاشعورية، والمنهج الاجتماعي الذي ينظر إلى الأدب على أنه مرآة تعكس الواقع بطريقة مباشرة قائمة على المحاكاة الحرفية أو الجدلية، والمنهج البنيوي التكويني الذي يبحث عن العلاقات داخل النص، وينظر إلى النص بأنه كيانًا لغويًا قائمًا بذاته، معزولاً عن المؤلف، والظروف التي أدت إلى ظهوره، مخالفةً مفاهيم المناهج النقدية التي سبقتها في الظهور، مثل المنهج التاريخي، والنفسي، والاجتماعي التي أكد بمجمله على المؤلف كمبدع للنص وارتباطه بظروف عصره التي ساعدت على إبداعه.
وقد أحدثت البنيوية ثورةً هائلةً في النقد الأدبي حينما تحول الاهتمام من المؤلف إلى النص، وعرفت الدراسات الأدبية نقلةً نوعيةً، ساهم فيها التطور الذي عرفته اللسانيات، وقد كان للفلسفة و للرياضيات دور كبير في تغيير الرؤية للأدب، وفي إعادة تحديد المفاهيم؛ كمفهوم الأدب والأجناس الأدبية والنص والتركيز على مفهوم العلاقة بدل المرجع، والاهتمام بالكشف عن أسرار العمل الأدبي من داخله متلافية كل بحث عن التكون المرتبط بالعالم الخارجي أو التاريخ.
نظرية التلقي :
وكرد فعل لنظرية البنيوية ظهرت نظرية التلقي التي ترى أن أهم شيء في عملية الأدب هي تلك المشاركة الفعالة بين النص الذي ألفه المبدع والقارئ المتلقي ، أي إن الفهم الحقيقي للأدب ينطلق من موقعة القارئ في مكانه الحقيقي وإعادة الاعتبار له باعتباره هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه وهو كذلك القارئ الحقيقي له: تلذذا ونقدا وتفاعلا وحوارا. ويعني هذا أن العمل الأدبي لا تكتمل حياته وحركته الإبداعية إلا عن طريق القراءة وإعادة الإنتاج من جديد؛ لأن المؤلف ما هو إلا قارئ للأعمال السابقة بالأساس .
ولا يكون العمل الإبداعي إلا من خلال المشاركة التواصلية الفعالة بين المؤلف والنص والجمهور القارئ ، ويدل هذا على أن العمل الإبداعي يتكون من عنصرين أساسين : النص الذي قوامه المعنى وهو يشكل أيضا تجربة الكاتب الواقعية والخيالية والقارئ الذي يتقبل آثار النص سواء أكانت إيجابية أم سلبية في شكل استجابات شعورية ونفسية ( ارتياح – غضب – متعة – تهييج – نقد – رضى … ) . وهذا يجعل النص الأدبي يرتكز على الملفوظ اللغوي (النص) والتأثير الشعوري (القارئ) في شكل ردود تجاه حمولات النص[1].
آراء طائفة من نقاد العصر الحديث في رسالة الغفران :
وكأنموذج توضيحي لنظرية التلقي نسوق بعض ما أحدثه نص رسالة الغفران لأبي العلاء المعري[2] من تأثير في طائفة من نقاد العصر الحديث ، حيث طبعت لأول مرة عام 1903م[3]، و من أبرز هؤلاء النقاد في العصر الحديث الأديبان المعاصران عباس محمود العقاد و طه حسين اللذين اختلفا حول خيال المعري في رسالته ، فقد كتب العقاد عن المعري عدة مقالات تحليلية ، و نشرها في الصحف ، ثم جمعها فيما بعد كتاب ( مطالعات ) ، و كان من بين هذه المقالات مقال بعنوان ( الخيال في رسالة الغفران ) جنح فيه العقاد إلى رأي مخالف ؛ إذ حكم[4] بأن الرسالة لا تخرج عن كتاب أدبي تاريخي يتصل بالعلم ، و ليس بدعة فنية ، فهو يتحدث عن أناس بما يعرفه الجميع عنهم ، و عن مسلمات وردت في كتب الدين ، و لم يستطع المعري فيها أن يولد الصورة المعبرة ، و أن يلبس المعاني المجردة لباس المحسوسات .
وقد رد عليه طه حسين فقال[5] : ( هل يعلم العقاد أن “دانت” صار شاعرًا نابغةً خالدًا على مر العصور و الأجيال ، واثقًا من إعجاب الناس جميعًا بشيء يشبه من كل وجهٍ رسالة الغفران هذه … إن من الأوروبيين من يزعم أن شاعر فلورنسا قد تأثر بشاعر المعرة قليلاً أو كثيرًا ، و ما الخيال ؟ أما إذا كان الخيال ملكة تمكن الكاتب أو الشاعر من أن يخترع شيئًا من لا شيء ، أو يؤلف شيئًا من أشياء لا ائتلاف بينها ، فلم يكن أبو العلاء على حظ من خيال ، لأنه لم يخترع في رسالة الغفران شيئًا من لا شيء ، و لم يؤلف بين متناقضات ، و لكننا نعلم أن علماء النفس لا يسمون هذه الملكة خيالاً ، و إنما يسمونها وهمًا ، و هم ينبئوننا أن الخيال لا يخترع من شيء ، و إنما يستمد صوره و نتائجه من الأشياء الموجودة ، يؤلف بينها تأليفًا غريبًا يبهر النفس … لا تقل لي أن حظ أبي العلاء من الخيال قليل ، بل قل حظه من الخيال عظيم جدًا ، قيم جدًا ، خليق بالخلود ؛ لأنه الخيال الخصب المنتج حقًا ).
ومن أبرز النقاد الذين كتبوا عن رسالة الغفران محمد سليم الجندي، وهو يرى بأن إن قيمة هذه الرسالة تعود إلى المسائل الصرفية التي عالجها المعري فهي تمثل تمكنه من هذا العلم تمكناً نادراً وتفوقاً ذكياً في معالجة نوادره وشوارده ومعضلاته ، ولعل المسائل الصرفية وبراعة المعري في الإجابة عنها قد جعلت للرسالة طابعاً صرفياً ، وبخاصة بين القدماء والمحدثين ، ولم يلتفت أحد إلى الحوار الذي يعبر عن شخصية المؤلف وخصائص أسلوبه وعالمه النفسي ووضعه الفكري في مرحلة متأخرة من العمر[6]
ومن أبرزهم الدكتور حسين جمعة الذي ناقش الخيال في الرسالة ، فخلص إلى تلمس إطلاق مفهوم التخيل عند ضروب التصوير الممكنة فكرًا و عقيدةً و ممارسةً على سبيل التشبيه و المماثلة القائمة في ذهن المعري ، أما ما ارتبط بالصور المستحيلة و العجائبية فقد آثر ربطه بمفهوم التخييل وفق ما يستشف من تصور المعري له في رسالته [7].
ومن أبرزهم أيضًا الشيخ عبد الله العلايلي ، فقد ألف كتابًا عن أبي العلاء أسماه ” المعري : ذلك المجهول ” ، درس فيه المعري من خلال آثاره و ما كتب عنه ، و قد كتب أربعة مباحث سيميائية نفسية لها علاقة برسالة الغفران ، مبحثين عن لغة المعري بعامة ، و مبحثين عن رسالة الغفران خاصة [8].
ومن أبرزهم الدكتورة عائشة بنت عبد الرحمن ” بنت الشاطئ ” ، محققة رسالة الغفران ، و قد ناقشت قضايا اللغة و الأدب في تحقيقها الذي يعد من أفضل التحقيقات الموجودة لرسالة الغفران ، و هي ترى بأن الرسالة مسرحية من ثلاثة فصول ، و أن العرب عرفوا هذا الفن الأدبي من قبل ، و لم يستوردوه من الغرب كما هو شائع [9].
ومن أبرزهم الدكتور محمد القاضي الذي يرى في رسالة الغفران نصًا حداثيًا ؛ لأنه نصٌ مراوغٌ ، يلمح و لا يصرح ، يحدث الحيرة ، و لا يهب اليقين ، لا يقول ما يريد قوله، وإنما يريد من قارئه أن يستنبط حقيقة القول المعلقة ، ويدفعه إلى أن يولّد الباطن من الظاهر [10].
ونقاد آخرين لا يتسع المقام لذكرهم وذكر آراءهم التي ناقشت رسالة المعري من عدة جوانب، وبعضهم جمع الآراء السابقة وناقشها واختار منها.
الخلاصة :
جاءت نظرية التلقي لتبين خطأ نظرية البنيوية في إهمال طرف مهم في المقام التواصلي وهو المتلقي، حيث يتضح من تعدد الآراء أن لكل متلقي للنص الأدبي رؤيته الخاصة للنص، ورأيه الخاص فيه، وذلك حينما يكون هذا المتلقي قارئًا متذوقًا، لا قارئًا عاديًا، كما أن لكل متلقٍ اهتمامه أو عمله الخاص، فهناك متلقٍ إحيائي كالذي وجد المخطوطة أول مرة فأحياها ونشرها للناس، ومتلقيٍ شارح للنص، ومتلقٍ لغوي، ومتلقٍ متهكم ساخر، ومتلقٍ رافضٍ مستبعد لسبب ديني، وأن أنواع التلقي هذه هي التي تشكل الذوق، وتجعل المتلقي الذي يأتي بعد عدة متلقين يكون أكثر إدراكًا من الذين سبقوه؛ لأنه ورث عدة قراءات، وأصبح لديه قدرة أكبر من الذين سبقوه لتكوين قراءة خاصةٍ به.
[1] – انظر منهج التلقي أو نظرية القراءة و التقبل ، للدكتور جميل حمداوي .
[2] – تعد رسالة الغفران لأبي العلاء المعري من أعظم كتب التراث العربي النقدي ، وهي من أهم وأجمل ما كتبه المعري في النثر ؛ و لذلك اهتم بها كثيرٌ من النقاد .
[3] – لم تكن الرسالة معروفة قبل عام 1899 م حتى نشر المستشرق الإنجليزي “نيكلسون” أنه عثر على مخطوطات عربية أهمها “رسالة الغفران” ، ثم قدم بعد عامين وصفًا للمخطوطة ، و بعد عامين نشر ملخصها ، و كانت أول طبعة لرسالة الغفران طبعة أمين هندية عام 1903 م ، و كان أول تحقيق لرسالة الغفران تحقيق الدكتور عائشة بنت عبدالرحمن عام 1955م .
[4] – انظر في “المطالعات” للعقاد ، ص 70 و ما بعدها .
[5] – انظر “حديث الإربعاء” ، ج 3 ص 116 .
[6] – الجامع في أخبار أبي العلاء المعري و آثاره ، دار صادر ، علق عليه و أشرف على طبعه عبد الهادي هاشم .
[7] – انظر “أدب الخيال في رسالة الغفران” مجلة التراث العربي ، ص 18 ، العدد 90 – السنة الثالثة و العشرون – حزيران ” يونيو ” 2003 – ربيع الآخر 1424هـ .
[8] – انظر “المعري : ذلك المجهول” من صفحة 37-92 ، دار الجديد ، الطبعة الثالثة 1995.
[9] – انظر” رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ” تحقيق د عائشة بنت عبد الرحمن ص 8 ، دار المعارف ، الطبعة التاسعة .
[10] – انظر “جماليات النص السردي في رسالة الغفران” مجلة علامات في النقد ، من صفحة 97 – 112 ، المجلد الثامن ، جزء 31.
تعليق واحد على “نظرية التلقي، وتلقي رسالة الغفران أنموذجًا”
السلام عليكم نشكركم على هده الافادة الطيبة ان امكن ان تفيدونا في الجانب التطبيقي خاصة في الشعر الحديث كامل دنقل والقراات المتنوعة لنصوصه دلال طالبة بام البواقي