“الشعر ديوان العرب” مقولة مشهورة، تستحضر عند الحديث عن مكانة الشعر عند العرب، وإسهامه في حفظ تراثهم الثقافي للأجيال اللاحقة، ولكن من أول من قالها، وما معناها، وهل كان هذا الأول ومن رددها بعده يقصدون المعنى الحقيقي أم المعنى المجازي؟
لم يتحقق شكري عياد[1] في بحثه المعنون “ديوان العرب، من وحدة القبيلة إلى وحدة الأمة”[2] من المقولة كاملة مثلما تحقق من الكلمة الأولى، فناقش تطور معنى كلمة “ديوان” وأعطاها حقها، ولم يعط المقولة كاملة حقها من البحث والمناقشة، لأنه يظن أن الجاحظ هو الذي ابتكر هذه المقولة وتبعه الآخرون، ولكن الحقيقة أن هناك من سبق الجاحظ بكثير حيث تروى هذه المقولة عن ابن عباس رضي الله عنه وهو يتحدث عن تفسير القرآن بالشعر.
أما إذا كان يقصد أن الحاجظ هو أول من استعمل المقولة استعمالاً مجازيًا حينما قال في الحيوان : ” فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب، وشكل من الأشكال. وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها ” فمعنى ذلك أن الذين سبقوا الحاجظ كانوا يقصدون بهذه المقولة المعنى الحقيقي وليس المجازي.
هل من الممكن أن يكون الذين سبقوا الجاحظ و منهم ابن عباس يقصدون المعنى الحقيقي للمقولة و هو أن الشعر العربي سجل تاريخي مثل السجلات التي يكتبها المؤرخون في كل زمان و مكان تمامًا ، و بالتالي يمكننا قراءة التاريخ العربي و معرفة حياة العرب من خلال الشعر العربي ؟ لا شك أنها فكرة جميلة حينما تداعب خيالنا و طموحنا العلمي ، كما تبدو صعبة و شاقة ، و لكن الأهم هل هي ممكنة ؟.
هل خطر في بال أحد أن يفعل ذلك أم لا، ما الذي ثناه عن ذلك، صعوبة تطبيق الفكرة أم استحالتها ؟ أعتقد أنها فكرة مستحيلة إذا تصورنا أن الشعر سجل مثل السجلات التاريخية تمامًا؛ لأن طبيعة الشعر مختلفة تمامًا عن النثر، ولأن الشاعر ليس آلة تصوير تنقل ما تراه تمامًا بدون تغيير أو إضافة أو حذف، وإنما يعمل مخيلته فيما تلتقطه حواسه مثلما تفعل برامج الحاسب في الصور والأفلام، وربما أكثر، فالشاعر لا ينقل الحدث كما وقع حقيقة ، و إنما كما يراه هو ، و يريد من غيره أن يراه كذلك .
أما إذا اعتقدنا أن المقولة مجازية وبالتالي يمكن الإفادة من الشعر لمعرفة لمحات من مختلف حياة العرب فذلك ممكن لأن هناك من طبقه تطبيقًا محدودًا، ولكن لماذا لم يقدم الباحثون على التطبيق الموسع ؟ أيكون السبب الشك في القيمة العلمية التي سيخرج بها الباحث مقابل صعوبة البحث ومشقته وخاصة إذا كنا نعرف القليل تاريخيًا عن الفترة التي الزمنية سوف يتناولها البحث ؟.
مهما كان الجواب فإن ذلك لم يثن شكري عياد عن محاولة استشراف جانب من تاريخ العرب قبل الإسلام من خلال الشعر، ولكنه لم يكتفِ بالشعر وحده، وإنما استعان بعلم اللغة والتاريخ والآثار والقرآن الكريم أيضًا، و هذا موجز لبحثه :
يتحدث شكري عياد عن ديوان العرب ( الشعر ) بصفته سجلاً للحياة الاجتماعية العربية ، ولا يتحدث عن قيمته الجمالية ، و كان أول من قصد هذا المعنى المجازي هو الجاحظ[3] الذي عاش من منتصف القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث الهجري ، وتبعه كثيرون .ص 15
ويحصره تاريخيًا في العصر الجاهلي ، و الثلاث مئة و خمسين سنة التي أعقبت الهجرة ، ناظرًا إلى المتنبي كآخر و ربما أعظم ممثل للقومية العربية ، حيث تحل بعد ذلك محل القومية العربية النزاعات المحلية[4]. ص 16
ويستنج من تطواف الأعشى داخل الجزيرة العربية و خارجها ، و من نقش امرئ القيس الذي وجد في النمارة قرب دمشق أن اللغة العربية الفصيحة قد أصبحت بالفعل اللغة المشتركة لجميع القبائل العربية قبل البعثة ببعض الوقت ، مع وجود فروقات لغوية رصدها اللغويون بعد ذلك ؛ و ليس مما يقبله العقل أن يوفد الرسول صلى الله عليه و سلم دعاته إلى أنحاء شبه الجزيرة حاملين القرآن لو لم يكن مفهومًا في كل مكان .ص 17
ويستنج من حفريات قرية الفاو أن شبه الجزيرة العربية من شمال الربع الخالي حتى الأراضي شبه الصحراوية الممتدة بين المرتفعات السورية و حوض الفرات – و التي سماها الجغرافيون العرب : ديار ربيعة – كانت موحدةً في مملكة واحدة أثناء القرون الأربعة التي سبقت الإسلام ، و أن تزايد الأهمية التجارية بين المراكز الرئيسية للحضارة في كل من الإمبراطوريتين البيزنطية و الفارسية كان أحد العوامل التي ساعدت على هذه الوحدة إلى جانب التجانس القومي و اللغوي .ص 18
ويرى أن انهيار سد مأرب، وهجرة القبائل إلى الشمال، والغزو الحبشي الأول لليمن بالإضافة إلى تدهور طرق التجارة داخل الجزيرة العربية، وغزو الفرس لسوريا ومصر، نتج عنه أصداء قوية في الجزيرة العربية كما يظهر من طريقة الإشارة إليها في القرآن الكريم في سورة الروم ،كما صحب الانحدار المستمر لمملكتي كندة و حمير سقوط شبه الجزيرة العربية كلها في الفوضى باستثناء مكة التي استطاعت أن تنظم رحلاتها التجارية إلى الشام و اليمن .ص 19
ويرى أن انهيار الحكومات المركزية و تدهور الحياة الاقتصادية و الهجرة الجماعية إلى الشمال كانت هي العوامل الثلاثة الأساسية التي شكلت تاريخ العرب طوال قرنين قبل الإسلام ، و كانت سمته المميزة هي القبلية ، و يرى أن النظرية الأقرب إلى العقل هي أن الحضارة العربية بوجه عام تمر في أدوار متعاقبة من الحياة المدنية و البدوية ، و أن الانتقال يتم بصورة غير عادية ، و هذا هو مصدر ضعف العروبة و قوتها في الوقت نفسه .ص 20
أما بعد الإسلام ، فيرى أن العصبيات القبلية أو الولاء للقبيلة استمر قويًا بعد الإسلام كما كان قبله ، و لو أن بعض العرب عدوا دور القبيلة في نصر الدين الجديد من مفاخرها ، بل أعظم مفاخرها في بعض الأحيان ، على أن القبيلة ظلت تهدد وحدة المؤمنين حديثة الميلاد، فليس هناك دارس جاد للتاريخ يسلم بالمقولة الشائعة قديمًا ، و هي أن الإسلام يمثل تغييرًا مفاجئًا و كاملاً في حياة العرب ، بل الصحيح أن هذه القيم كانت تحتاج إلى وقت لتتأصل في السلوك العادي للمسلمين .ص 25
وفي الوقت نفسه لم يكن بوسع التاريخ أن يتوقف و ينتظر ، لأن الظروف المتغيرة جاءت بتحديات جديدة ، فسرعان ما دبت الخصومة بين قريش نفسها ، فكان العرب على اختلاف قبائلهم يناصرون إما الحزب الأموي أو الحزب الهاشمي أو الزبيري ، و لا يرى بعضهم حرجًا من تحول نصرته و ولائه من حزب إلى حزب .ص 26
وازداد هذا التشابك بين الولاءات تعقيدًا عندما دخلت شعوب الأقطار المفتوحة في الإسلام، وكان القرن الأول من العصر العباسي بوتقة بكل معنى الكلمة ، انصهرت فيها مختلف الشعوب منتجة شيئًا أقرب ما نعرف إلى التسمية بقومية عربية ، حيث كان رئيس الدولة عربيًا ، كما كان عدد لا بأس به من القواد و الولاة و العمال عربًا كذلك ، و كانت الشعوب التي امتصت حديثًا تشارك مشاركة إيجابية في أعمال الدولة .
ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً فقد اجتمعت الطموحات الشخصية و النزاعات الإقليمية على تمزيق الدولة العربية الإسلامية الواسعة ، و لم يحدث أي تغيير مهم في العصور التالية حتى العصر الحديث ، و كانت شبه جزيرة العرب[5] نفسها الأقاليم معاناة من التحلل الذي أصاب الدولة العربية الإسلامية فارتدت إلى حال من البداوة استمرت حتى أعادها النفط مرة أخرى إلى بؤرة الاهتمام العالمي .ص 28
ويرى أن القرنين التاسع و العاشر الميلاديين[6] قد أنجبا شاعرين يمكن أن نعدهما أعظم ممثلين للقومية العربية في نضجها ثم في بداية انحدارها ، أما الأول فهو أبو تمام ، و مدائحه في المعتصم و قواده الذين أصبحوا مشغولين بصوره شبه مستمرة على الجبهة البيزنطية ، حيث تستوي على القارئ بجوها الكثيف ، و كأنها ملحمة قومية ، و أما الثاني فهو المتنبي و أوصافه لمعارك سيف الدولة أمير حلب العربي ، حيث تكون واحدة من أعظم ذخائر الأدب على الإطلاق .ص 29
[1] ناقد و قاص و أستاذ جامعي مصري ، وُلد بقرية كفر شنوان بمحافظة المنوفية بمصر. حصل على ليسانس الآداب من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1940، ودبلوم المعهد العالي للتربية بالقاهرة عام 1942 والماجستير عام 1948 والدكتوراه عام 1953. عمل مدرساً بمدارس وزارة التربية والتعليم، ثم انتقل إلى مجمع اللغة العربية محرراً به عام 1945، انضم إلى هيئة التدريس بجامعة القاهرة عام 1954، ثم عُين أستاذاً لكرسي الأدب الحديث في قسم اللغة العربية عام 1968، ثم عميداً لمعهد الفنون المسرحية عام 1969، ثم وكيلاً لكلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1971 ، كما عمل بجامعة الخرطوم ، و بجامعة الرياض ” الملك سعود حاليًا ” ، له العديد من الدراسات النقدية والأدبية المتميزة بسعيها لتأصيل النقد العربي المعاصر وتجديده ، توفي في القاهرة عام 1999 م .
[2] نشر بحثه “مركز دراسات الوحدة العربية” مع مجموعة بحوث قيمة لمجموعة من الباحثين في كتاب بعنوان “الأدب العربي ، تعبيره عن الوحدة و التنوع” عام 1987م ، وهو من الكتب التي جعلتني أسأل نفسي : كيف لم أقرأها من قبل ؟.
[3] لم يذكر شكري عياد نص كلام الجاحظ ، وكان الأولى ذكره وتوثيقه.
[4] لمعرفة لمحة عن تباين الأدب العربي باختلاف البيئات و الأقاليم انظر البحث الثامن في نفس الكتاب تحت عنوان “بواكير الآداب الإقليمية في تاريخ الأدب العربي” لحسين نصار ، ص 215.
[5] هنا أوجز شكري عياد الحديث عمّا حدث في جزيرة العرب في هذه الفترة الطويلة ، لماذا كانت أكثر الأقاليم معاناة ، هل ارتدت إلى البداوة ارتدادًا كاملاً فعلاً ، و لماذا ؟ أعتقد أنها ثغرة في البحث ، أو ربما موضوع جديد بحاجة إلى البحث.
[6] لا أدري لماذا استمر شكري عياد في التأريخ بالميلادي في حديثه عن تاريخ العرب بعد الإسلام ؟!.
4 تعليقات على “هل يمكن قراءة التاريخ العربي من خلال الشعر ؟”
أعتقد أن الكلمة تحمل بُعداً مجازيًا في قول ابن اعباس وفي قول الجاحظ أيضًا , ولا يُمكن أن تحتمل هذه المقولة أكثر من الحمولات الملقاة على عاتقها ..
جميل .. (f)
الله يا أبا زياد ,,,, ذكرتني بذاك الذي أن شاء الله ما عاد نشوفه .؟
كلام شكري عياد دقيق لكن بعيد عن المقصد الواضح ,,, الواضح لي من كلام ابن عباس ومن بعده الجاحظ : ان الشعر ديوان العرب ، أي انه ينبئك بالأحداث التي وقعت دون الخوض في دقائق الأحداث ونتائجها ,, فمثلا يكفي ان يشير الى حرب وقعت , أو صلح …
* عبدالله المقبل :
أشكرك على مرورك الكريم يا صديقي (f)
* خالد الهذال :
😆 ، صدقت ..
و لكن هناك فرق بين ما حدث بالفعل ، و بين حديث الشعر عن هذا الذي حدث
و هو ما أشار إليه حسين الواد في بحثه ” الشعر العربي و التقالبد الأدبية ” عندما تحدث عن علاقة الشعر بالواقع ، و فرق بين التاريخ و التاريخي ، و يقصد بالتاريخ ما وقع بالماضي فعلاً من وقائع و أحداث ، و أما التاريخي فهو ما ارتسم في تصور الجماعة أو ذاكرتها من أمر تلك الوقائع و الأحداث ، و كيف يستحضره الشعراء و يتمثلونه . ص 74 – 75 .
أرأيت كم هي جميلة هذه الخميلة ؛)
Excellent article over again! Thank you.