التصنيفات
كتب وقراءات

شعرنة الحياة للدكتور عبدالله بن سليم الرشيد

دراسة لبعض أسجاع العرب الاجتماعية[1] أجراها الأستاذ الدكتور عبدالله بن سليم الرشيد[2] بعدما فطن إلى أن هذه الأسجاع لم تأخذ حقها من الدراسة، وأرجع سبب ذلك إلى عدم كثرتها، والجهل بقائليها، وتباعد معانيها في الظاهر، واختلاف مناسباتها، وقد قسم هذه الأسجاع إلى أربعة أقسام، فجعل قسما لما قيل من الأسجاع في الأنواء، وقسمًا لما قيل في القمر، وقسمًا لما قيل على لسان الحيوان، وقسمًا لما قيل في المطر والعشب والمرض والأزواج.

وفي سبب التسمية يقول الدكتور “عاش العرب في بلاد مجدبة، تطغى عليها الصحراء، ولا يكاد المطر يجود فيها ؛ ولهذا حاولوا تطرية جفافها بكلام موقَّع مسجوع ، لا يرضى بأن يصف تلك الأحوال بمنطق عادي ، بل يملؤه بكلِّ ما اقتدر عليه من صنوف الإبداع الفني ، وهو ما استعَرْتُ له مصطلح (الشعْرنة).

 إنَّ شعْرنة الحياة ظاهرة في هذه النصوص ، وهي شعْرنة تجنح إلى تخفيف آثار تقلّب الحياة ، وتواتر صروفها ، وتبدّل مظاهرها ، ويُقصَد بها تسهيل صعابها ، بإضفاء هذه الصبغة الشعرية على أوصافهم لمظاهر الكون ، وصنوف الموجودات من حيوان ونبات وغيرهما.

و هذه الأسجاع تشترك في اتصالها بالحياة ، ومزاوجتها بين التجربة الشخصية ، والقدرة الذهنية ، وفي اعتمادها الإيحاء ، وتحريكها قوى الحدس عند المتلقِّي ؛ لاعتمادها لغة فنية عالية، تفجِّر طاقات اللغة ، وتفيد من ذخائرها البيانية . وهي بهذا تكشف عن المعنى الأعمق للحياة ، وتقود إلى بعث الخير والجمال فيها بطريقة مخصبة”. ص 133-134.

و قد استمعت بقراءة هذه الشعرنة كثيرًا ، و دونت بعض الملحوظات و التعليقات أثناء القراءة ، و ها أنا أعرضها عليكم :

قال الدكتور في صفحة 109 : (1-3 إنَّ هذه الأسجاع التي تتناول الأنواء ، توجز ما يقع من تغيُّرات في الجو ، وما يتبع ذلك من اختلاف في التعايش معها ، حتى إنَّها تشمل بعض ما يتعلَّق بالمأكل والمشرب والملبس والمنام.)

هل أُهمل الدكتور أهمية أسجاع الأنواء في الزراعة عمدًا ، أم أنها داخلة ضمن المأكل ؟

و في صفحة 109 : (وإذا صحّ حكم الساجع على مظاهر الطبيعة لأنها ليست مما يُخلِف في العادة .. )

نعم مظاهر الطبيعة لا تخلف في العادة ، و لكن التكلف في السجع قد يؤدي بالساجع إلى الأحكام الخاطئة ، أو المبالغة في الحكم ، مثل قصة والي قم الذي عزله التكلف في السجع .

و في صفحة 114 : (وبناء هذه الأقوال على السجع المتكلَّف لا يقدح في قيمتها؛ مثلما لا يقدح تكلُّف الوزن والقافية في الشعر ، ذلك أنَّ المقاصد التي يريدها القائل تجعل السَّجع أساساً في كلامه)

المقصود القيمة الفنية و الأدبية ، و لكن ماذا عن القيمة العلمية التي تتمثل في مدى صحة هذه الأقوال علميًا ، أم أنها خارج حدود هذه الدراسة ؟.

إن القارئ النهم المتطلع للمعرفة لا يكفي في الحقيقة بالقيمة الفنية و الأدبية وحدها بل يتطلع إلى ما هو أكثر من ذلك ، لا شك أن ما قام به الدكتور كان جميلاً جدًا ، و لكن ماذا لو كان هناك قيمة علمية ، ألن تزيد هذه القيمة العلمية من القيمة الفنية الأدبية ، إن هذه الدراسة خطوةً لكتابة موسوعة شاملة عن الأنواء و القمر تجمع بين الأدب و العلم ، فمن يا ترى يكمل المشوار ؟

وفي صفحة 122: (وهذا الشعر المُستَولَد من ذلك النثر الفني يؤكِّد ما ذهب إليه الجاحظ من أن “الشعر حديث الميلاد” ، وكأنَّ الذي نثره ابتداءً كان يُضمِرُ أن يقوله شعراً ، ولكنَّه كان في موقف ارتجال ، فلم تسعفه القدرة أو القريحة على أن يأتي به موزوناً) .

إذا كان المقصود أن النثر سابق للشعر فليس ذلك محل اختلاف ، و أما إن كان المقصود بحداثة ميلاد الشعر أن أوائل ما وصل من الشعر الجاهلي كانت هي البدايات فذلك محل خلاف ، و قد فند ذلك شكري عياد في مقاله عن ديوان العرب[3] ، و حسين الواد عن التقاليد الأدبية[4] ، فهل يرى الدكتور أن حججهما كانت غير مقنعة ؟

وفي صفحة 123: (-14 إنَّ هذه الأسجاع التي تحفظ مظاهر تغير الجو، بهذا النمط الموجز المكثّف، الذي يستغرق المعاني، ويفصِّل بعضها، هي- في رأيي- إرهاصٌ للمنظومات العلمية التي راجت بعد القرن الثاني؛ ويمكنُ عدُّها مهاداً وثيراً قدح فكرة النظم العلمي، ويسّر لها أن تنمو وتعظم فيما بعد )

ربما قدحت الفكرة ، و لكنهما جنسان مختلفان ، فقد بقيت أسجاع الأنواء حتى اليوم ، لم تلغها المنظومات ، و لم تتلاشَ فيها .

و في صفحة 126 : (3- الحيوان البليغ:

3-1 ذهب العرب مذهباً آخر في شعْرنة الحياة، فأنطقوا الحيوان بما يختصرُ رؤيتَهم للشدائد التي يعانون منها، فجعلوا البهائم التي تعيش معهم تجيب عن سؤال ، وكأنّها في موقف اختبار)

إن الأسجاع في الأنواء و على لسان الحيوان ما زالت مستمرة حتى اليوم ، و ممتدة إلى اللغة العامية ، أعلم أن الدكتور غير مهتم بالعامية ، و لكني أشير إلى أن استمرارها حتى اليوم و لو بالعامية دليل على عمق هذه الشعرنة في وجدان الإنسان العربي قديمًا و حديثًا ، كما أشير إلى أنه بإمكان أي مهتم بالعامية أن يسرق هذه الأفكار الجميلة و يطبقها على العامية بمجرد تغيير الأمثلة من الفصيح إلى العامية لشدة التشابه بين ما قيل الفصيح و ما قيل بالعامي .

و في صفحة 132 : (4-4 ومن أسجاعهم الأخرى قولهم: “الأزواج ثلاثة: زوجُ مَهْرٍ، وزوجُ بَهْرٍ، وزوجُ دَهْر” ) .

هناك أسجاع في الأزواج في حديث أم زرع المشهور المروي في صحيح البخاري ، و فيه من غريب اللغة و لطيف المعاني و طريفها ما يجذب السامع إليه جذبًا ، و لا أدري هل يدخل ضمن هذه الدراسة أم لا ، لأنه معلوم القائل و ليس مجهول القائل ، و لأن هذه الأسجاع لم يكن غرضها التعليم ، فهي لهذين السببين مختلفة عن الأسجاع التي وردت في الدراسة ، و هذا نص الحديث :
جلس إحدى عشرة امرأة ، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا ، قالت الأولى : زوجي لحم جمل غث ، على رأس جبل : لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل . قالت الثانية : زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف أن لا أذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره . قالت الثالثة : زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق إن أسكت أعلق . قالت الرابعة : زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ، ولا مخافة ولا سآمة . قالت الخامسة : زوجي إن دخل فهد ، إن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد . قالت السادسة : زوجي إن أكل لف ، وإن شرب أشتف ، وإن اضطجع التف ، ولا يولج الكف ليعلم البث . قالت السابعة : زوجي غياياء ، وعياياء ، طباقاء ، كل داء له داء ، شجك أو فلك أو جمع كلا لك . قالت الثامنة : زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب . قالت التاسعة : زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد . قالت العاشرة : زوجي مالك وما مالك ، مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك ، قليلات المسارح ، وإذا سمعن صوت المزهر ، أيقن أنهن هوالك . قالت الحادية عشرة : زوجي أبو زرع ، فما أبو زرع ، أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم عضدي ، وبجحني فبجحت إلي نفسي ، وجدني في أهل غنيمة بشق ، فجعلني في أهل صهيل وأطيط ، ودائس ومنق ، فعنده أقول فلا أقبح ، وأرقد فأتصبح ، وأشرب فأتقنح . أم أبي زرع ، فما أم أبي زرع ، عكومها رداح ، وبيتها فساح . ابن أبي زرع ، فما ابن أبي زرع ، مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة . بنت أبي زرع ، فما بنت أبي زرع ، طوع أبيها ، وطوع أمها ، وملء كسائها ، وغيظ جارتها . جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ، لا تبث حديثها تبثيثا ، ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ، ولا تملأ بيتنا تعشيشا . قالت : خرج أبو زرع والأوطاب تمخض ، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين ، يلعبان من تحت خصرها برمانتين ، فطلقني ونكحها ، فنكحت بعده رجلا سريا ، ركب شريا ، وأخذ خطيا ، وأراح علي نعم ثريا ، وأعطاني من كل رائحة زوجا ، وقال : كلي أم زرع ، وميري أهلك ، قالت : لو جمعت كل شيء أعطانيه ، ما بلغ أصغر أنية أبي زرع . قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كنت لك كأبي زرع لأم زرع )
[5] .


[1] نُشرت في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني في 42 صفحة – و هي مجلة متخصصة محكمة ، تصدر مرتين في السنة -، في العدد السابع و السبعين ، في النصف الثاني من عام 2009م ، و بإمكانك الإطلاع على هذه الدراسة كاملة في موقع مجلة مجمع اللغة العربية الأردني بالنقر على هذا الرابط .

[2] أستاذ جامعي سعودي، حاز درجة الماجستير عام 1993م، ثم درجة الدكتوراه عام 2000م ، له أربعة دواوين شعرية ، و العديد من الدراسات و المقالات المنشورة .

[3] عنوان البحث : ” ديوان العرب ، من وحدة القبيلة إلى وحدة الأمة ” نشر ضمن مجموعة بحوث في كتاب بعنوان : ” الأدب العربي ، تعبيره عن الوحدة و التنوع ” ص 15، عن “مركز دراسات الوحدة العربية ” عام 1987 م ، بيروت ، لبنان .

[4] عنوان البحث : ” الشعر العربي و التقاليد الأدبية ” نشر في مجلة جذور الصادرة عن نادي جدة الأدبي ، العدد الثالث ، 1420هجرية ، ص 53.

[5] صحيح البخاري ، برقم : 5189

بواسطة صالح الهزاع

مدون سعودي

أكتب تعليقك

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: