ثمة طريقتان للوصول إلى الكتب الجيدة، ومن ثم الوصول إلى الكُتاب الجيدين، الطريقة الأولى أن تبحث عن الكتب الجيدة بنفسك، وهي طريقة متعبة ومكلفة، والطريقة الثانية أن تكون محظوظاً، فتصاحب أصدقاء يحبون القراءة، ويناسب ذوقك ذوقهم، فيرشد بعضكم بعضاً إليها، وهذا ما أنعم الله عليّ به، ومع ذلك فلا زلت بين الفترة والأخرى أصادف كتبا وكتابا، فأسأل نفسي : أين كنت عنهم من قبل؟.
إن اكتشاف كاتب مميز بالنسبة لي يعنى أوقاتاً طويلةً من المتعة والفائدة، فإذا كنت مثلي لم أقرأ – لسوء الحظ – من قبل للدكتور محمد العوين فقد فاتتك أوقات طويلة من المتعة والفائدة، في معرض الكتاب المنصرم حصلت على أول كتاب للدكتور موقعاً، وقد كان بعنوان (رسائل ابن بطوطة النقدية)، بصراحة لم يكن العنوان جاذباً لي، فكلمات (رسائل ابن بطوطة) أوحت لي أن الكتاب يتحدث عن التراث، وكتب التراث كما تعلمون لم تعد مرغوبة هذه الأيام، فقد أصبح الشباب يتهافتون على كل جديد من الكتب، مع أن هناك كتبا تراثية لا تعادل متعة قراءتها أي متعة في قراءة كتاب من الكتب الحديثة.
أما كلمة ( نقدية ) فقد أجهزت على أي جاذبية يمكن أن يشع بها العنوان، والسبب في ذلك لا يرجع إلى كرهي للنقد، على العكس، فقد كان مقرر النقد من أحب المقررات إليّ أثناء دارستي الجامعية، وإنما يرجع إلى ما أدخله بعض النقاد الذين عادوا بالدكتوراه من بلاد الأعاجم فما فتئوا يطالعونا كل يوم في الصحف والمجلات بنظريات من النقد عجيبة، لم أسمع بها من قبل حتى من أستاذتي في الكلية، فكيف بغير المتخصصين، لماذا شوهوا جمال النقد هكذا، وعطلوا الذائقة العربية، وعزلوا محبي الأدب عنه، وجعلوه فنا نخبويا إلى أقصى الحدود؟.
وقد فاجأني كتاب الدكتور هذا كثيراً، وخالف توقعي، فقد وجدت فيه من المتعة ما جعلني آسى أن لم أقرأ له من قبل، وكان عزائي الوحيد أني أدركت الكتاب في طبعته الأولى 1429 عن دار العصيمي، وموقعاً من المؤلف، والكتاب عبارة عن رسائل للدكتور باسم مستعار، وهو (ابن بطوطة)، كتبها حين كان مشرفاً على الملحق الأدبي الأسبوعي، وهو ملحق يصدر عن جريدة المسائية كل سبت، لمدة سبع سنين، منذ انطلاقها في شهر محرم من عام 1402هـ.
وكانت هذه الرسائل موجهة إلى مجموعة من الأدباء، ناثرين وشعراء، وقد أحدثت هذه الرسائل ضجة أدبية وحراكاً نقدياً ساحناً لم تكن تحتمله صحافتنا تلك الأيام، فتوالت الردود من هؤلاء الأدباء أنفسهم، أو ممن ينيبونهم في الرد على (ابن بطوطة)، ومن القراء أيضاً، حتى أولئك الأدباء الذين توفاهم الله كتب نيابة عنهم محبوهم، أو بعض دارسي أدبهم، فجعل الدكتور الفصل الأول من الكتاب لرسائل (ابن بطوطة)، والفصل الثاني للإجابات والردود على رسائله.
وقد حملت تلك الرسائل ألواناً شتى من الإعجاب، وألواناً شتى من الغضب والنقمة الهادئتين -كما يقول المؤلف- وحملت العديد من الآراء النقدية التي أصابتني بالدهشة لموافقتها ذوقي الشخصي كقوله عن شعر الحداثة في رسالته إلى الشاعر أحمد الصالح : (إلا هذا العبث الذي يصنعه الآن شعراء الحداثة المغرقة في ابتعادها عن نص الشعر وشجاعة الرسم المؤثر ..! وهي قصيدة الانفكاك عن الموسيقى والتلهي بغموض الرمز والتوهان خلف دوائر (اللاتعبير) فهو سمة التجديد والإبداع عند هذا النفر من المجددين الحداثيين ..).
وكقوله عن استخدام الألفاظ العامية في الرواية في رسالته إلى الطيب صالح : (وهل نفترض أن قراءك لا بد أن يكونوا قد زاروا الخرطوم أو سكنوها، أو حتى كونوا لهم صداقات مع السودانيين؟! نحن نحترم الشعب السوداني، لكننا نعجز عن فهم كثير من الألفاظ والتعابير، وأعترف بفشلي الذريع في كشف رموز (دومة ود حامد ) أو (عرس الزين) خاصة وأن كثير منها قريب من الأسطورة، والشعوذة والتخريف!، وإذا كان المراد خلق مسافة من التقارب الثقافي، فلا مانع، لكن دون إغراق في العامية، ويمكن أن نطعم الأسلوب بكلمات مقوسة، مع شرحها في الحاشية! أما أن نكتب باللهجة المغربية، أو السودانية، أو اللبنانية، ونقول للشعب العربي إقرأ، فهذا مكلف جداً، ويمزق التوحد اللغوي).
وبالإضافة إلى الرسائل صدر المؤلف كتابه بمقدمتين ممتعتين مفيدتين، تحدث المؤلف في المقدمة الأولى عن نفسه، وعن علاقته بالمنقودين، وعن نقده، وقد لفتني كلامه عن نفسه حينما قال : ( و ربما لأني أكره النزاعات والخصومات، وأميل إلى الهدوء والمسالمة هكذا ينظر الرائي؛ لكن ذلك الصلف في الداخل، ليس له من سبيل إلى الهدوء إلا الكتابة!)، وتحدث في المقدمة الثانية عن استخدام الرمز كوسيلة للتعبير والكتابة، ودافع عن نفسه بمناقشة الأسباب التي تدفع المثقفين إلى استخدام الأسماء المستعارة وذكر نماذج جميلة، كيف لا وقد دون بعضها في دراسته عن فن المقالة.
والدكتور بالمناسبة مثال للأديب الملتزم، المهتم بالحركة الأدبية والثقافية في بلاده، فقد حصل على الدكتوراه عام 1420هـ من كلية اللغة العربية بجامعة الإمام عن رسالة بعنوان (صورة المرأة في القصة السعودية)، وقد طبعت الرسالة في جزئين، وأذكر بأني حضرت مناقشة رسالته لما كنت طالب بكالريوس في الكلية، ورسالته للماجستير بعنوان: (المقالة في الأدب السعودي الحديث) طبعت في جزئين، وأرجو من الباحثين أن يواصلوا رصد هذه الظاهرة (الكتابة بأسماء مستعارة) التي انتعشت بانتشار استخدام الإنترنت في المملكة حتى لا نفقد جزءاً جميلاً وجريئاً من كتابات المبدعين والمثقفين.